22 تشرين الثاني (نوفمبر) في عيد القديسة سيسيليا




ينبغي ان اخط بضعة اسطر لأبقي جذوة هذا النهار السعيد في الذاكرة، أو، في الاقل، لأدون سجلاً تاريخياً لما تمتعت به. كان النهار صافياً من الغيم، ودافئاً. توجهت مع تيشباين الى الساحة قبالة كنيسة القديس بطرس. ذرعنا الساحة جيئة وذهاباً حتى شعرنا بوهج حرارة اجسامنا، فجلسنا في ظل مسلة ـ لا يتسع إلا لاثنين بالكاد ـ وقضمنا عنباً كنا قد اشتريناه من الجوار. بعد هذا رحنا الى مصّلى سيستين حيث كان الضوء المسلط على اللوحات الجدارية على اقوى ما يكون. وحين عاينا اعمال مايكل انجيلو البديعة هناك انقسم اعجابنا بين لوحة "يوم الدينونة"، وبقية اللوحات المرسومة على السقف. ان ثقة هذا المعلم بالنفس وحيويته وعظمة تصوراته، لتستعصي على التعبير. وبعد ان عاينا كل اللوحات، المرة تلو الاخرى، غادرنا المصلى، ودخلنا كنيسة القديس بطرس. وكانت كل زوايا الكنيسة واضحة للعيان بفضل نور الشمس الباهر. ولما كنا عازمين على التمتع ببهاء وروعة الكنيسة، فاننا لم نترك، هذه المرة، لذائقتنا الحرون، حرية صدّنا، فأحجمنا عن النقد اللاذع. لقد تمتعنا تماماً بكل ما هو جدير بالتمتع.

بعد هذا صعدنا الى السطح، حيث يجد المرء منمنمة عن مدينة حسنة البناء، بمنازلها ودكاكينها، ونافوراتها، وكنائسها (أو هكذا تبدو في الاقل من الخارج)، اضافة الى معبد كبير ـ مندرجة في الهواء الطلق، تخترقها الدروب الجميلة. ودخلنا الى القبة العليا، لنطل منها على ابيناينس، وجبل سوراكتي، والتلال البركانية خلف تيفولي، وفراسكاتي، وقلعة جاندولفو، والسهل المترامي وراءها حتى البحر. ها هي ذي مدينة روما تحتنا بطولها وعرضها، وقصورها وقبابها، الخ. لم تكن ثمة نفحة هواء في هذه الكرة النحاسية التي تؤلف القبة، بل كان جوها خانقاً كما لو كنا داخل بيت تدفئة زجاجي. ولما فرغنا من ان نعبّ كل شيء، نزلنا وطلبنا فتح الابواب المفضية الى افاريز القبة، والطرة المطرزة وصحن الكنيسة. بوسع المرء ان يدور حول القبة، ويرى من علٍ كل ما يقع اسفل الكنيسة. ولما كنا واقفين على افريز الطرة المطرزة، رأينا في الاسفل البعيد نيافة البابا ذاهباً للتعبّد عصراً. وما خذلنا القديس بطرس. عدنا الى النزول، وخرجنا الى الساحة، وتناولنا وجبة زهيدة، ولكن لذيذة، في حانة قريبة، وبعدها رحنا الى كنيسة القديسة سيسيليا.

ان وصف ديكورات هذه الكنيسة الضاجة بالزوار يستغرق صفحات وصفحات، فهي مكسوة بالزينة كسوة لا تسمح برؤية حجر اصلي واحد في البناء. فالاعمدة مكسوة بمخمل احمر ومثبت بوشاح من مخرمات ذهبية، وأما تيجان الاعمدة فمكسوة بمخمل مطرز، يتوافق مع شكلها نوعا ما، وكذا حال الافاريز والدعائم. أما فسحة الجدران بينها فمغطاة هي الاخرى بستائر زاهية اللون، فبدت الكنيسة بأسرها كما لو كانت قطعة موزاييك واحدة، ضخمة. هناك اكثر من مائتي شمعة موقدة خلف المذبح وعلى جانبيه، بحيث ان هناك حائطاً كاملاً مرصوف بالشموع، التي انارت صحن الكنيسة انارة باهرة. وهناك منصتان قبالة المذبح، مكسوتان هما ايضا بالمخمل، شيدتا تحت علية الارغن. ويقف كورس من المنشدين على المنصة الاولى، أما فرقة الاوركسترا، التي لم تكف عن العزف، فتجلس على المنصة الثانية.

ومثلما ان هناك حفلات موسيقية تكرس للكمان وحده، أو لغيره من الآلات، فان الحفلات الموسيقية هنا مكرسة للحناجر: فهنا حنجرة ـ من السوبرانو ـ تصدح وتنشد منفردة لحين، ويرافقها الكورس بين آونة وأخرى، مدعماً، بالطبع، بآلات الاوركسترا كلها. والأثر بديع.

ومثلما تنقضي كل الايام الحلوة، تأتي هذه الانغام الى خاتمتها. وفي المساء توجهنا الى دارة الاوبرا، حيث يعرضون اوبريت "أي ليتيجانتي"

أي: المتخاصمون، ولكننا كنا متخمين بسماع ومشاهدة كل ممتع، فتجاوزنا دارة الاوبرا، ومضينا.