13 كانون الاول (ديسمبر)




انني سعيد لانكم اعتبرتم اختفائي على نحو ما كنت آمل. اتوسل اليكم ان تصلحوا بيني وبين أي قلب شعر بالاساءة من هذا الاختفاء. فما قصدت ازعاج احد، ولا انا بقادر الآن على قول ما ابرر به فعلتي. حاشا لله ان يدع الحوافز التي دفعتني الى هذا القرار تمس مشاعر أي صديق.

انني اتعافى ببطء من "الوثبةالمميتة"، وادرس اكثر مما امتع نفسي. ان روما عالم كامل، وان سنوات طويلة من العمر تلزم كي يصير المرء مواطنا فيها. ما اسعد المسافرين الذين يلقون عليها نظرة عجلى ويمضون.

عثرت صباح هذا اليوم، مصادفة، على الرسائل التي كتبها فينكلمان من ايطاليا، ولكم ان تتخيلوا بأي جموح عاطفي قرأت نصها. فقبل واحد وثلاثين عاما، وفي هذا الوقت نفسه من العام، وصل فينكلمان الى روما، وهو على سذاجة تفوق حمقي. غير انه اندفع، بجد الماني حق، الى القيام بدراسة مستفيضة دقيقة لعصور الاقدمين وفنهم. ألاما اشجع اقتحامه هذه الصعاب! وما اكبر مغزى ان اتذكره هو، هنا، في هذه المدينة!

لو استثنينا اشياء الطبيعة، الصادقة والمنسقة في كل ممالكها، فما من شيء افصح واقوى اثراً من الانطباع الذي يخلفه رجل حسن وذكي، أو عمل من اعمال الفن الاصيلة الخالية، شأن الطبيعة، من أية مثلبة. وان المرء ليحس بهذا الامر احساساً عميقاً في روما بالذات، حيث تنطلق النزوات جامحة على هواها، وحيث تتأبد كثرة من السخافات بفعل الثروة والنفوذ.

ثمة مقطع محدد من رسالة وجهها فينكلمان الى فرانك اثار حبوري. يقول المقطع:

"في روما، يتوجب على المرء ان يبحث عن كل شيء بقدر من اللامبالاة،

وإلا عُدّ فرنسياً. اعتقد ان روما مدرسة لكل العالم، ولقد دخلت هذه المدرسة التي شذبتني وعركتني."

ان ما يقوله ينطبق بالدقة على طرائقي في البحث والاستقصاء. وما لم يطأ المرء ارض روما، فلن يتسنى لـه ان يتصور أية مدرسة هي. فالمرء يبعث هنا من جديد، ان جاز القول، وان افكاره السالفة تبدو مثل قماط الطفل. فالانسان العادي تماما يغدو هنا شخصاً بارزاً، لأن عقله يكبر ويتسع الى حد هائل، حتى لو بقيت شخصيته على حالها.

ستصل هذه الرسالة اليكم في وقتها المناسب قبيل رأس السنة. فعسى ان يكون العام الجديد عام سعادة، وعسى ان يتلئم شملنا جميعا قبل انصرامه! ما اروع ان نلتقي ثانية! لقد كان العام الفائت اهم فترة في حياتي؛ وسواء مت في الغد أو عشت ردحاً آخر، فان حياتي ستظل جميلة. اليكم الآن كلمات موجهة للاطفال، ولكم ان تتلو نصها عليهم، أو ان تسردوها لهم بكلماتكم انتم.

هنا، لا يلحظ المرء الشتاء. فالثلج الذي يمكن لك ان تراه إنما يكلل ذرى الجبال النائية شمالا. وان اشجار الليمون مزروعة على طول اسوار الحدائق. وسرعان ما سيكسوها اصحابها بالحصير الواقي، إلا ان اشجار البرتقال تظل في العراء. وتتدلى من هذه الاشجار المئات والمئات من اشهى الثمار. وهم لا يقلمونها، ولا يغرسونها في دلاء، كما نفعل في بلدنا، بل يتركونها تشخص، حرة، طليقة في التربة، على شكل صفوف منتظمة، جوار اشقائها. ولكم ان تتخيلوا ان لا شيء ابهى واحلى من مرأى مثل هذه الشجرة. ويمكن لكم، لقاء بنسات قلائل، ان تقضموا ما شئتم من البرتقال. وان مذاق البرتقال هنا لذيذ تماماً، لكن طعمه اشهى واحلى في شهر آذار (مارس).

ذهبنا ذات يوم الى ساحل البحر ورأينا صيادي السمك يلقون شباكهم. فعادت بالوفير والغريب من السمك، والسلطعون، وغيرها من غرائب مخلوقات الطبيعة. وحوت الشبكة ضرباً من السمك يصعق المرء بتيار كهربي ان لامسها.