21 شباط (فبراير)، اربعاء الرماد
اخيراً انتهت الحماقة. اوقدت الشموع الوفيرة، مساء الامس، مشهداَ آخر من مستشفى المجاذيب. يتعين ان يرى المرء كرنفال روما حتى يفقد كل رغبة في مشاهدته ثانية!
لا يستأهل ذلك كتابة حرف واحد، رغم انه يصلح موضوعاً لحديث مسلٍ. المزعج في كرنفال الشموع غياب البهجة الحق عند الناس، الذين لا يملكون ما يكفي من المال لاشباع رغائبهم القليلة، أو ما بقي لهم منها. فالكباربخلاء في الانفاق، والطبقة الوسطى مفلسة، والعوام بلا قرش. وبلغ الصخب في اليوم الاخير حداً لا يصدق، دون ان تكون هناك مسرة حقيقية. وكانت السماء الصافية، البديعة تطل في براءة على كل هؤلاء المهرجين.
ولما كان من المتعذر على المرء ان يحجم عن وصف مثل هذه المشاهد، ولما كنت ارغب ايضا في تسلية الاطفال، فانني ارسل لكم بعض الرسوم الملونة عن اقنعة الكرنفال والازياء الشائعة في روما. ويمكن للاعزاء الصغار ان يستخدموا هـذه الرسوم بـديلاً عـن أي فصـل مفقـود مـن كتـاب "العـالم فـي صور" Orbus Pictus.
اغتنم اللحظات الفاصلة بين حزم المتاع لادون بعض ما نسيت. في الغداة سنرحل الى نابولي. اتوق الى ان انعم بحرية جديدة في فردوس الطبيعة هذا، واجد حافزاً طرياً لاستئناف دراسة الفن عند عودتي الى جلالات روما.
لا عناء في حزم الامتعة. فأنا اقوم به الآن بجهد اقل مما كنت افعل قبل ستة اشهر، حين قطعت علائقي بكل ما هو عزيز عليّ. نعم، لقد مضت ستة اشهر على ذلك، ولم اضيع لحظة واحدة من الاشهر الاربعة التي امضيتها في روما. اعني اني لم ابدد الشطر الاعظم من الوقت، وما هذا بمغالاة.
اعرف ان مسرحية افجيني قد وصلتكم؛ وآمل ان اتلقى ما يفيد انها حظيت باستقبال حسن، لحظة تطأ قدمي ارض فيزوف.
انه لامتياز عظيم ان يسافر المرء صحبة تيشباين، بما يمتاز به من عين لاقطة للطبيعة والفن. ولا يسعنا نحن الاثنين، بوصفنا الماناً حقيقيين، ان نحجم عن وضع الخطط للعمل. اشترينا احسن اوراق الرسم، رغم ان عدد وجمال المواضيع التي سنصادفها كفيلة بأن تحدّ كثيراً من نوايانا الحسنة.
وطدت العزم على امر واحد: لن آخذ معي من اعمالي الشعرية سوى: تاسو Tasso. فأنا اعلق عليه آمالاً عظيمة. لو كنت اعرف رأيكم في مسرحية افيجيني، لاعانني ذلك وارشدني نظراً لأن نص: تاسو، مماثل لذاك. وان الموضوع هنا محدد تحديداً ادق قياساً الى المسرحية السابقة، مع هذا يحتاج الى البلورة من حيث التفاصيل. وكل ما كتبته حتى الآن لا يليق إلا بأن يرمى بعيداً؛ وان المخطوطة تهجع ساكنة منذ فترة مديدة، فترة طالت اكثر مما ينبغي؛ ولا اجد الشخصيات ولا الحبكة ولا الايقاع على أية مقربة من تصوراتي الحالية.
وقعت اثناء ترتيب الاوراق على رسالة منكم تلومني على انني اناقض نفسي في ما كتبت من رسائل. لم اكن واعياً لهذا، ولعله مرجح تماماً، نظراً لاني ابعث الرسائل لحظة الفراغ من كتابتها. اشعر ان ثمة قوى جبارة تقذف بي في الجهات، ومن الطبيعي والحالة هذه انني لا اعرف، دوما، أين أقف.
ثمة حكاية عن صياد سمك فاجأته العاصفة ليلاً، فبذل جهده الجهيد لتوجيه دفة القارب الى ميناء الاهل. تشبث به ابنه اليافع وسأله: ابتاه، ما هذا الضوء الغريب الصغير، الذي أراه تارة في الاعالي وتارة في الاسفل؟" وعده الأب ان يعطيه الجواب في اليوم التالي. واتضح ان ذلك هو ضوء الفنار، الذي بدا لعيني الصبي، في القارب المتأرجح مع الموج العاتي، تارة يعلو وتارة يهبط.
وبالمثل، اوجه دفة قاربي صوب الميناء وسط بحر عاتي الموج، مثبتاً بصري على شعاع الفنار، رغم ان هذا الضوء يلوح لناظري، متغير الموقع، إلا اني سائر عليه حتى اصل البر سليماُ، معافى.
محتوم على المرء، عند أي اقلاع، ان يفكر في الرحلات السابقات، مثلما يفكر في الرحلة النهائية في المستقبل. ثمة فكرة تلازمني وتلح عليّ الحاحاً أشد من ذي قبل، وهي اننا نتحوط للحياة تحوطاً اكثر مما ينبغي. فأنا وتيشباين، مثلاً، نوشك على ان ندير الظهر للكثير من الاشياء البديعة، بما في ذلك متحفنا الشخصي المترع باللقى. ولدينا الآن ثلاثة نماذج من تمثال جونوس للمقارنة، إلا اننا نتركها كما لو اننا لا نملك شيئا.