5 آذار (مارس)
قضينا ثاني الآحاد في لينت، متجولين من كنيسة الى اخرى. ان ما تعالجه روما باقصى الاجلال والمهابة يعالج هنا باقصى البهجة الممراح. لعل مدرسة نابولي في الرسم لا يمكن ان تفهم فهماً حسناً إلا في اطار نابولي ذاتها.
ذهلنا لرؤية الواجهة الغربية من احدى الكنائس وقد صُبغت من اعلى الى ادنى. وتبرز فوق مدخل الكنيسة لوحة تصور المسيح وهو يطرد صرافي النقود من المعبد؛ وترى هؤلاء الصرافين يتدحرجون، من الجانبين، واقعين من درجات السلم، والفزع يعلو سيماءهم.
وتزدان الجدران الداخلية لكنيسة اخرى، بعد رواق المدخل، بلوحات جدارية تصور طرد هيليودوروس. لا عجب في عجلة الفنان لوقا جيور دانو في الرسم، فالمساحة التي ينبغي ملؤها هائلة حقاً. حتى منبر الوعظ لا يشبه منابر الوعظ في مدن اخرى، فهو لا يزيد عن عرش اسقف واحد وكرسي واعظ واحد. وهناك منبر آخر رأيته، لا يزيد عن ردهة يذرعها قس كبوتشي جيئة وذهاباً وهو يقرع جمع المصلين على خطاياهم، تارة من هذا الصوب في الردهة، وطوراً من ذاك الصوب.
اعجز عن الشروع في ان اصف لكم عظمة تلك الليلة، التي اكتمل فيها القمر بدراً، حين رحنا نهيم في الشوارع والساحات، ومنتزه كيابا، الذي يبدو بلا نهاية، وعلى ساحل البحر. غمرني احساس طاغ بلا تناهي المكان. ان القدرة على الحلم بهذه الصورة لجديرة حقاً بعناء القدوم الى هذا الموضع.
تعرفت خلال الايام القليلة الماضية على رجل عظيم، يدعى كافالييري فيلانجيري، المشهور بمؤلفه "علم التشريع". انه واحد من اولئك الشباب ذوي القلوب النبيلة التي لا يغيب عن فكرها ان الهدف هو سعادة بني البشر وحريتهم. وهو يتميز بأدب جم مما يميز السادة، كما يتميز بنزوع دنيوي، ويخالط ادبه احساس اخلاقي مرهف يتخلل شخصيته بأسرها ويشع من ثنايا حديثه وسلوكه على نحو ساحر. والرجل متفان في خدمة مليكه، والنظام الملكي الحالي، رغم انه ليس راضياً عن كل ما يجري. وتخيم عليه، بالمقابل، مخاوف كبيرة من جوزيف الثاني. ان مرور خاطر صغير عن حاكم مستبد، حتى لو كان شبح احتمال، يفزع العقول النبيلة. اخبرني في صراحة تامة ما ينتظر نابولي على يد هذا الانسان. ويحب فيلانجيري الحديث عن مؤلفات مونتسيكيو، وبيكاريا، وعن مؤلفاته ايضا. فهي مفعمة بروح ارادة الخير، والرغبة الشابة، المخلصة، لاتيان الخير. لابد انه ما يزال في العقد الثالث من عمره.
بعيد تعارفنا، اطلعني على اعمال كاتب اقدم عهداً، تمتاز حكمته العميقة بأثر تنويري مجدد على سائر الايطاليين من ابناء هذا الجيل المساند للعدالة يدعى هذا المفكر جيامبايتستا فيكو، وهم يعدونه اعظم من مونتسيكيو. وبدا لي، من القراءة السريعة لكتابه، الذي قدم لي كما لو كان كتاباً منزلاً، انه يحوي رؤى ونبوءات عن تحقق الخير والعدالة، أو وجوب تحققهما، في المستقبل، وهي نبوءات تعتمد على دراسة عميقة للحياة والتراث. ما اروع ان يكون لدى شعب من الشعوب مثل هذا البطريارك الروحي: ذات يوم سيغدو هامان انجيلاً مماثلاً عند سائر الالمان.