6 آذار (مارس)
رافقني تيشباين اليوم في ارتقاء جبل بركان فيزوف، على مضض، ولكن بدافع الوفاء للرفقة. لا ريب ان منظر فيزوف منفر تماماً امام روح فنان مثقف مثل تيشباين، معني دوماً بأجمل ما في الاشكال البشرية والحيوانية، وباسباغ الروح البشري على ما لا شكل له وروح ـ من صخور ومناظر طبيعية ـ ليفعمها احساساً وذوقاً؛ اقول ان روحاً كهذه لابد ان تأنف هذه الكومة، القاسية، الصلبة التي يؤلفها بركان فيزوف، الذي يدمر ذاته بذاته، ويعلن الحرب على أي احساس بالجمال.
اخذنا مركبتين ذات مقعد واحد لأننا لم نكن نثق بقدرتنا على الاهتداء الى السبيل وسط زحام المدينة وفوضاها. وكان الحوذي يزعق بلا انقطاع: "اخلوا الطريق! اخلوا الطريق!" تحذيراً للحمير المثقلة بحمولة الاحطاب أو الازبال، أو تحذيراً للعربات المارقة في الاتجاه المعاكس، أو الحمالين الذين وسط زحام المدينة وفوضاها. وكان الحوذي يزعق بلا انقطاع: "اخلوا الطريق! اخلوا الطريق!" تحذيراً للحمير المثقلة بحمولة الاحطاب أو الازبال، أو تحذيراً للعربات المارقة في الاتجاه المعاكس، أو الحمالين
الذين ينوءون باحمالهم، أو عابري السبيل من المارة اطفالاً ومسنين، كي يتنحوا جانباً، حتى يواصل الخبب الجامح.
اسفرت أحياء الضواحي وجنائنها عن بوادر تنبئ اننا دخلنا مملكة بلوتو. لقد كفّ المطر منذ فترة بعيدة، واكتست اوراق الاشجار دائمة الخضرة بطبقة كثيفة من غبار مسود اقرب الى الرماد؛ وكانت سقوف المنازل، والافاريز، بل كل ماهو مسطح مكسو بغلالة رمادية؛ غير ان السماء الزرقاء الجميلة، والشمس الساطعة فوق رؤوسنا، تشهدان على اننا ما نزال بين الاحياء.
التقينا اثنين من الادلاء عند سفح المنحدر الجبلي، احدهما مسن، والآخر فتى غض، إلا انهما اهل للمهمة. اخذني الدليل المسن في عهدته، أما الفتى فأخذ تيشباين، وجرانا جراً الى اعلى التل. واقول "جراً" لأن كل دليل يتمنطق بحزام من الجلد يتعين على الزائر ان يتمسك به، ليجر جراً الى الصعود، على ان يتلمس موقع قدميه بمعونة عصا.
على هذا النحو بلغنا قاعدة منبسطة ينبجس منها كوز الحبل. شظايا حطام القمة تشخص قبالة الشمال. أما قبالة الغرب فالمشهد جميل، يشبه حماماً منعشاً، يزيل عناء واوجاع الجسد المكتوي بجهد التسلق. بعد ذلك درنا حول الكوز، الذي كان مستمراً في نفث الدخان وقذف الحجارة والرماد.
ويمتاز هذا المشهد بالعظمة والرفعة طالما توفرت فسحة كافية لبقاء المرء على مسافة آمنة. بغتة اطلق البركان هديراً مدوياً، هائلاً، قذف في اعقابه آلاف الحجارة، الصغير منها والكبير، ملفعة بغيوم من الغبار، في الهواء. سقط معظم المقذوفات في الهاوية، وتسبب الباقي في دوي خارق عند الارتطام بالجدار الخارجي لكوز البركان. في البدء، سقطت الاحجار الثقيلة، مدوية دوياً حاداً، لتتدحرج بعدئذ على المنحدر، نعدّ عدّاً بطيئاً.
ضاقت الفسحة الفاصلة بين القمة (بالايطالية) والكوز على نحو تدريجي، حتى وجدنا انفسنا محاطين بالاحجار المقذوفة، التي تجعل المشي عصياً. خيّم الغم على تيشباين، وهو يرى الى هذا الوحش البركاني، الذي لا يكتفي بقباحته، بل راح ينذربأن يحيقنا بالخطر ايضا.
غير ان هذا الخطر الداهم ينطوي على شيء يحفز روح التناقضات البشرية على تحديه وملاقاته، لذا قلت لنفسي ان بالامكان تسلق كوز البركان، وبلوغ حافة فوهته، ثم العودة، خلال الفترة الفاصلة بين القذف المتعاقب للحمم. اتخذنا موضعاً آمنا للجلوس في كنف صخرة مشرئبة، وانعشنا انفسنا بما جلبنا من طعام، وطلبت مشورة الدليلين عما عزمت عليه. ابدى الفتى كل الثقة في خوض غمار المجازفة؛ غطينا قبعاتنا بمناديل من القماش والحرير وامسكت نطاقه الوسطي، بهذه اليد، والعصا باليد الاخرى، وانطلقنا.
كانت الصخور الصغيرة ما تزال تقرقع، والرماد ما يزال يتساقط حولنا، لحظة جرني الفتى القوي فوق ركام الحصى المتوهج. وقفنا هناك عند شفا الفوهة الهائلة؛ ثمة نسيم خفيف يجلي الدخان بعيداً عنا، إلا انه يستر باطن الفوهة بغلالة؛ وتتصاعد الابخرة من حولنا من آلاف الشقوق؛ ونلمح بين الحين والآخر جدران الصخر المتشققة. لم يكن المشهد مريحاً ولا مفيداً للتعلم، مرد ذلك اننا لم نكن نستطيع ان نتبين أي شيء، فاطلنا المكوث حتى نرى المزيد. ونسينا متابعة العدّ البطيء للزمن، وبقينا واقفين عند الحافة الحادة من الهاوية المروعة، حين داهمنا بغتة، دوي هائل هزّ الجبل، وانقذفت شحنة هائلة من الحمم من امام وجوهنا. احنينا رأسينا غريزياً، كما لو ان في ذلك نجاتنا، حين بدأ سيل الاحجار يتساقط كالمطر. كفت الاحجار الصخرية عن القرقعة اثناء السقوط، فنزلنا بسرعة الى اسفل الكوز، بعد ان نسينا ان فترة هدوء البركان قد انصرمت وسعدنا بالنجاة. وتسربلنا، اثناء هذا النزول، بمطر مدرار من الرماد الذي غطت قبعتينا وكتفينا بدثار سميك. وبعد ان لامني تيشباين لوماً ودوداً، وتناولنا شيئاً من المنعشات، استعطت ان اتفحص بعناية حمم البركان، القديم منها والجديد. والتقط الدليل المسن عينات منها، وذكر لي عمر كل عينة بدقة. ان الحمم القديمة مكسوة بالرماد وناعمة جداً؛ أما الحمم الجديدة، وبخاصة التي خرجت ببطء، فتبدو غريبة جداً.
حين تسيل الحمم ببطء، فان سطحها يبرد ويتحول الى كتل صلبة. وان بعض العوائق يوقف هذه الكتل، بين الحين والآخر. وتنجرف الكتل المتلكئة بفعل مسيل الحمم الذائبة تحتها، فتتراكم فوق الكتل الساكنة. وتتكرر هذه العملية المرة تلو الاخرى حتى يتحجر السيل في اشكال متثلمة. ويحصل شيء مماثل مع قطع الجليد الطائفة في النهر، غير ان تأثير ذلك على حمم البركان اقوى. وتوجد بين المنتوجات الذائبة، عديمة الشكل، انماط معينة من الصخور البدائية. واشار الدليلان الى ان هذه حمم قديمة انطلقت من اعماق البركان الذي يطلقها بين فترة واخرى.
لاحظت في طريق العودة الى نابولي منازل صغيرة مؤلفة من طابق واحد، شيدت باسلوب غريب من دون نوافذ؛ وان مسارب النور الوحيدة الى الغرفة تتمثل في الباب المطل على الشارع. ويجلس ساكنوها في الخارج من الصباح الى المساء، حتى اوان الرقاد في كهوفهم.
ان هذه البلدة التي تعج بالضجيج حتى خلال المساء، رغم ان هذا ضجيج من نوع مغاير، توقد في رغبة البقاء فيها مدة اطول لرسم التخطيطات التي اقدر عليها لما فيها من مشاهد حية. بيد اني اشك في ان يتحقق شيء على مثل هذا اللطف.