12 آذار (مارس) الصباح
طفت اليوم في ارجاء المدينة على جري عادتي، مدققاً النظر في الكثير من النقاط التي آمل ان اصفها وصفاً مفصلاً فيما بعد، أما الآن، فلا وقت كاف عندي، لسوء الحظ.
كل ما يصادف النظر ويطرق السمع يعطي الدليل على ان هذا بلد سعيد، يشبع اشباعاً كافياً الجوهري من الحاجات، وينمي شعباً سعيداً بطبعه، فهذا شعب يستطيع ان ينتظر دون قلق مجيء الغد ليحمل اليه ما يحوزه اليوم، لذا تراه يعيش حياة هانئة، محظوظة، قانعاً في الرضى الآني، واللذائذ المتواضعة، ملاقياً الآلام والاحزان، لحظة تأتي، بأسى شفيف. اليكم مثالاً باهراً عن ذلك:
كان الجو في الصباح بارداً، رطباً، فنثيث المطر تساقط قبلئذ. وصلت الى ساحة بدت لي احجارها المرصوفة وكأنها قد كنست ونظفت تنظيفاً دقيقاً على غير العادة، فدهشت لمرأى عدد من الغلمان بثياب رثة، يتحلقون في دائرة، ضاغطين اكفهم على الاحجار المستوية كما لو انهم يتدفأون. في البدء، خطر لي انهم يلعبون لعبة ما، لكن سيماءهم المتجهمة اوحت ان هناك غرضاً عملياً ينشدونه بهذا السلوك. عصرت قوى تفكيري لأحزر مبتغاهم، دون ان اجد تفسيراً مرضياً، فكان عليّ والحالة هذه ان اسأل احداً عن سبب قعود هذه القرود الصغيرة على شكل دائرة، واتخاذها مثل هذا الوضع الغريب.
قيل لي ان حداداً من الجوار يحاول ان يضع طوق حديد في دولاب عربة ويحقق ذلك كالآتي: يوضع طوق الحديد على الارض ويغطى بنشارة دائرية من الخشب وتشعل حتى يلين الحديد بدرجة كافية. وبعد ان تحترق النشارة عن آخرها، يوضع طوق الحديد، أو الدولاب، حول العجلة الخشبية، ويُزال الرماد بالكنس الدقيق. أما المتشردون الصغار اولا، فيغنمون فرصة هذه السخونة العالقة ببلاط الشارع ويمكثون عندها حتى تمتص اجسادهم آخر نزر من الدفء فيه.
بوسعي ان اورد لكم امثلة لا عدّ لها عن هذه القدرة على اغتراف الكثير من القليل، والافادة من كل شيء قبل ان يضيع هباء. ان هؤلاء الناس يتفتقون عن ابدع المواهب، لا لأصابة الثراء، بل للعيش خلواً من الهم.