11 آذار (مارس)
لما كان بقائي في نابولي لن يطول، فانني ازور المواضع البعيدة الهامة اولا، أما المواضع القريبة فرهن الاشارة. اتجهنا أنا وتيشباين الى بومبي، ورأينا في كل حدب وصوب مناظر نعرفها من اللوحات، أما الآن فنراها كلها مجتمعة، في مشهد واحد بديع.
تفاجئ بومبي كل ناظر بانضغاطها وصغر حجمها. فالشوارع ضيقة، وان تكن مستقيمة ومحفوفة بالارصفة، والبيوت صغيرة بلا نوافذ ـ لا يدخلها النور إلا من المداخل أو الاقواس المفتوحة ـ بل ان المباني العامة وشواهد القبور عند بوابة المدينة، والمعبد، والفيلا القريبة منه، تبدو كلها بمثابة نماذج معمارية مصغرة، أو لعباً للاطفال، اكثر منها بناءات حقيقية. إلا ان حجراتها ودهاليزها واقواسها ملونة تلوينا بهيجاً. فالجدران ذات السطوح المستوية مزدانة بلوحات جدارية، ثرة التفاصيل، وان تكن باهتة الالوان، ومتثلمة. وتزدان اللوحات الجدارية بنقوش لطيفة تنم عن ذوق رفيع: هناك لوحة جدارية تصور اجساد اطفال وحوريات بحر فاتنات؛ واخرى تصور حيوانات وحشية ومروضة تخرج من اكاليل زهور انيقة. ورغم ان المدينة قد دمرت تماماً، اولا بالبركان الذي دفنها بركام من الرماد والصخور، وثانياً بحفاري الآثار الذين نهبوها، إلا انها ما تزال تشهد على عظمة الفطرة الفنية عند اهلها، وحبهم الكبير للفن، وهي فطرة لا يمكن لاكبر عشاق الفن في يومنا هذا ان يحسها أو يفهمها أو يتمناها.
في ضوء المسافة الكبيرة الفاصلة بين بومبي وبركان فيزوف، لا يمكن للحمم البركانية التي دفنت المدينة ان تصل اليها من الجبل، لا بفعل قوة الانفجار البركاني ولا بقوة ريح عاتية: تصوري الشخصي ان الصخور وكتل الرماد الحارق انطلقتا في الاعالي، وبقيت سابحة في الهواءن مثل الغيم، قبل ان تنزل على المدينة المنحوسة.
وابتغاء التصور الواضح لما حصل تاريخياً، يتعين على المرء ان يتخيل قرية جبلية دفنت في الجليد. ان المسافات بين المباني، والمباني نفسها، المسحوقة تحت ثقل ما يتساقط عليها، قد دفنت تماماً، وغابت عن النظر، باستثناء نتوء من جدار هنا أو هناك؛ وتحولت رقعة المدينة المدفونة الى رابية اتخذها الناس حقلاً للكروم والجنائن. ولعل الفلاحين الذين حرثوا أو احتفروا حقولهم هم اول من اصاب غنيمة الكنوز الثمينة.
خلفت فينا هذه المدينة المحنطة كالمومياء انطباعاً منفراً، غريباً، ولم تنبسط ارواحنا إلا بعد ان جلسنا في عريشة حانة متواضعة تطل على البحر، لتناول وجبة زهيدة. وانسحرنا بالسماء الزرقاء والبحر المتلأليء، فغادرنا على أمل ان نعود الى هذا المكان ونغرف متعتنا منه في يوم ما في المستقبل، حين يزدان هذا المكان الظليل باوراق العنب.
ولما اقتربنا من نابولي، اثارت البيوت الصغيرة دهشتي لشدة شبهها بمنازل بومبي، لكأنها نسخ طبق الاصل عن تلك. طلبنا الاذن لدخول احد هذه المنازل، فوجدناه نظيفاً، مرتباً، حسن الاثاث ـ مقاعد من القش المضفور، وخزانة بلون ذهبي، مزدانة بنقش من الازهار الملونة، ومدهونة بدهان تلميع. ما تزال هذه المنطقة، رغم انصرام القرون ووقوع ما لا عدّ لـه من التغييرات، تفرض على ساكنيها العادات نفسها، والاذواق ذاتها، وضروب التسلية ذاتها، وطراز العيش ذاته.