13 آذار (مارس)
سأكتب اليوم بضعة كلمات أُخر، وابعث الرسالة في إثر الرسالة. انا بخير، ولكني لا اشاهد إلا القليل من الاشياء. ان هذا المكان يورث الوهن والتراخي، والعيش الرغد. رغم ذلك، تجدني اجمّع اجزاء صورة المدينة، قطعة، قطعة.
عدنا ثانية الى بومبي يوم الاحد. لقد شهد العالم ما لا يحصى من الكوارث، لكن قلة منها تركت للذرية والاخلاف هذا القدر الكبير من البهجة؛ كما اني لم أر شيئاً مثيراً مثل هذا. ان بوابة المدينة، وطريق الاضرحة، خارقان للعادة. هناك ضريح لكاهنة، معمول على هيئة اريكة نصف دائرية، وقد حفرت على شاهدته الخلفية احرف كبيرة لأسمها. ولما تجاوزته ببصري رأيت الشمس الغاربة في البحر.
التقينا زمرة من النابوليين، الذي كانوا منطلقين على سجيتهم بقلب خلي، على اكثر ما يمكن للمرء ان يكون خلي القلب، وتناولنا جميعا الطعام في توري ديل انونزياتا. رصفت موائدنا قرب ساحل البحر، مطلة على المشهد البهيج لكل من كاستلامار وسورينتو، اللتان بدتا دانيتين. وهتف احد النابوليين ان العيش لا يساوي شروى نقير من دون اطلالة على البحر. يكفيني، شخصياً، انني احمل هذه الصورة في ذاكرتي، ولسوف اعود سعيداً الى الجبال حين يأزف الموعد.
ما اكبر حظنا في ان نتوفر، هنا، على رسام مناظر طبيعية بالغ الدقة، يلتقط اجواء هذه الانحاء الثرة، الطلقة في رسوماته. لقد انجز بعض الاعمال خصيصا لي.
درست عينات حمم بركان فيزوف بعناية بالغة؛ ان الاشياء تتجلى في صورة مغايرة ان شوهدت في ترابطها. لو قيض لي، كما ينبغي لي حقاً، ان اتفرغ في ما بقي من حياتي لمراقبة الاشياء ودراستها، لاكتشفت اشياء توسع المعرفة البشرية.
الرجاء ان تبلغوا هيردر ان تأملاتي في علم النبات تستحوذ عليّ بقوة أكبر وتجرفني بعيداً. ان فرضيتي الاساسية ما تزال على حالها، لكن صياغة التفاصيل قد تتطلب حياة كاملة. ولعلني سأقدر يوماً على بلورة خطوطها العامة.
اتطلع الآن الى رؤية متحف بورتيشي. ويعد هذا المتحف اول مكان تنبغي زيارته، بنظر الكثيرين، أما بالنسبة لنا، فسيكون الاخير. لا اعرف حتى الآن الى أين سأمضي في الخطوة اللاحقة؛ الكل يريد عودتي الى روما في عيد الفصح. لننتظر ونر.
تنهمك انجيليكا في رسم مشهد من مسرحيتي افيجيني. ان فكرة اللوحة مفرحة، ولسوف تنفذها باتقان. اختارت انجيليكا منعطفاً هاماً في احداث المسرحية، تلك اللحظة التي يصحو فيها اوريستيس من اغماءته ليجد نفسه في حضور شقيقته وصديقها. لقد حولت الحوار الذي يدور على السن الشخصيات الثلاث، الواحد تلو الآخر، الى ايماءات وحركات متزامنة. ويعبر ذلك عن رهافة احساسها، وقدرتها على ترجمة الحياة بوسائلها الفنية الخاصة.
وداعاً، وليبق حبكم لي عامراً! الكل هنا يحسن معاملتي في عطف، رغم انهم لا يعرفون ما يدور في خلدي. انهم يجدون تيشباين انسب لمزاجهم. وقد رسم تيشباين هذا المساء، بعيد العشاء، رؤوساً بحجم طبيعي، استقبلوها بهياج استقبال النيوزيلانديين لأول محارب عندهم. يتمتع تيشباين بموهبة كبيرة في التخطيط بالقلم والحبر، ليرسم اشكالا تشبه آلهة الاغريق وابطالهم، بحجم طبيعي، أو اكبر من ذلك. وتراه يضعهم على الورق بضربات قليلة، ليضيف بعد ذلك الظلال بفرشاة عريضة حتى تبرز الرؤوس مثل النحوت الناتئة. ذهلت الجماعة الايطالية على السهولة التي فعل بها ذلك، وعبرت عن حماسته لـه واغتباطها به. ثم اخذت اصابعهم تتحرق للتجريب ذلك بانفسهم. فالتقطوا الفرش وبدأوا يرسمون اللحى على وجوه بعضهم البعض.
وقع ذلك في وسط مثقف وفي بيت رجل هو نفسه رسام اصيل وواضع تصاميم. ألا يدل هذا النوع من السلوك على وجود أثر بدائي معين في الجنس البشري؟