20 آذار (مارس)
وردت انباء عن وقوع انفجار بركاني جديد للتو، بعيدا عن انظار نابولي، لأن الحمم تسيل في اتجاه اوتايانو، وقد اغواني النبأ بزيارة جديدة، ثالثة، الى فيزوف. ما ان وصلت قاع الجبل، ونزلت من عربتي الصغيرة، ذات العجلتين والحصان الواحد، حتى وجدت امامي الدليلين اللذين جاءا معنا في آخر زيارة، فاستأجرتهما معاً.
ولما بلغنا كوز البركان، بقي الدليل المسن مع معاطفنا وزواداتنا، أما الدليل الشاب فقد تبعني. مضينا في طريقنا بأقدام الى غيمة الابخرة الهائلة التي تنبعث من نقطة تقع في منتصف فوهة البركان. ولما بلغنا الفوهة رحنا ندور حول حافتها باحتراس. كانت السماء صافية، فرأينا، حال انقشاع غيوم الابخرة سيل الحمم.
كان عرض السيل نحو عشرة اقدام، لكن نزوله عبر المنحدر الخفيف كان مثيراً للعجب. فالحمم المتدفقة تبرد على جانب السيل المتدفق، لتؤلف نوعاً من قناة. ولكن الحمم في قاع القناة تبرد فيرتفع قاع القناة هذا باطراد. واذ تطفح، تروح تلفظ السائل الذائب من الجانبين. وعندئذ يتشكل اخدود بارتفاعين، تواصل جداول الحمم اللاهبة تدفقها الهاديء بينها بهدوء مثل غدير طاحونة. مضينا نمشي بموازاة كتف اخدود الحمم التي تجمدت، بينما كان خبث البركان السائل، الحارق، يمضي في الاخدود متدفقاً الى الاسفل. ويتقطع السيل احياناً، فتظهر فجوات نرى منها قاع الاخدود المتوهج. ورأيناه مرة اخرى من عل، حين مضى السيل نازلاً.
أدى سطوع الشمس الباهر الى اضعاف وهج الحمم، التي اكتفت بنفث القليل من الدخان في الهواء الصافي. تملكتني رغبة عارمة في الاقتراب قدر الامكان من موضع انطلاق الحمم من الجبل. اكد لي دليلي ان هذا الاقتراب آمن، لأن ما ان تنطلق الحمم حتى يشكل الدفق سقفاً من الحمم الباردة فوقه، وانه سبق وان استطاع الوقوف فوق هذا السقف المبّرد. وابتغاء تجربة ذلك، عدنا للصعود الى أعلى الجبل لبلوغ الفوهة من الخلف. وحالفنا الحظ بهبوب نسيم ازاح قسماً من الابخرة من الجو، على الاقل، وبقيت نفثات من الابخرة الساخنة تنبعث من آلاف التشققات والصدوع. بتنا الآن نقف على القشرة المتصلبة للحمم، التي تهجع ملتوية في اشكال لولبية كأنه عصيدة لينة، إلا انها كانت ناتئة الى حد يمنع علينا رؤية الحمم السائلة لدى انبعاثها.
حاولنا ان نقطع نحو دزينة من الخطوات حول الفوهة، إلا ان الارض تحت اقدامنا ازدادت سخونة، بل حميت، وباتت كثافة الابخرة المتصاعدة تحجب الشمس، وتخنق علينا الانفاس. كان دليلي يسبقني في الخطو، فتوقف، وعاد ادراجه، ليجرني، فابتعدنا عن جحيم هذا المرجل.
رطبنا الحلق بالنبيذ، وكحلنا العين بالنظر الى المشهد، ورحنا نجوب انحاء اخرى من جبل البركان لمراقبة الخصائص الاخرى في قمة الجحيم هذه، التي تشمخ وسط الفردوس. تفقدت المزيد من المداخن البركانية، والتشكيلات الناتئة، من مادة الرواسب الكلسية المسماة: حليمات. وبفضل عدم انتظام شكل المداخن البركانية، فان بعض هذه الانابيب النافثة للدخان كان قريباً في متناول اليد، واستطعنا ان نقتطع عينات منها باليد مباشرة، أو ببعض الكلابات. الواقع، سبق لي ان رأيت لدى باعة الحمم البركانية المتجمدة نماذج منها، معروضة للبيع بوصفها حمماً بركانية حقيقية، لذا شعرت بالسعادة للوصول الى هذا الاكتشاف. فما هذه سوى سخام بركاني، يترسب من الابخرة الساخنة؛ وان محتوياته المتكثفة واضحة للعيان.
اسبغ الغروب البديع، والمساء اللطيف البهجة على رحلة العودة. مع هذا اشعر بهول الارتباك الناجم عن اجتماع هذه المتناقضات: المهول الى جانب الجميل، والجميل جوار الفظيع، فهما يلغيان اثر بعضهما البعض، ويولدان احساساً باللامبالاة. وان انسان نابولي سيكون مخلوقاً مختلفاً حقاً ان لم يشعر ان ذاته محشورة بين مطرقتي الإله والشيطان.