3 نيسان (أبريل)
بادرنا اول ما بادرنا الى التجوال في المدينة لرؤيتها عن كثب، بعد ان تيسر لنا ادراك صورتها الكلية، دون ان نعرف تفاصيلها. ثمة شارع يمتد ميلاً كاملاً من البوابة السفلى للمدينة، الى بوابتها العليا؛ ويتقاطع هذا الطريق مع شارع آخر بصورة متعامدة، الامر الذي يسهل العثور على أي موقع اعتماداَ على هذين المحورين المتقاطعين. غير ان الدروب في قلب المدينة متاهة محيرة من التشعبات، لا يجد الغريب طريقه فيها إلا بمعونة دليل.
قبيل المساء، شاهدنا عرض عربات النبلاء باهتمام كبير، فالنبلاء في هذه الساعة من النهار يمضون في عرباتهم الى الميناء لتنسم الهواء، وتجاذب اطراف الحديث، والغزل مع النساء طبعاَ. بزغ البدر تاماً قبيل ساعتين من مغيب الشمس، مسربلاً المساء بهامات المجد. وبسبب الجبال المشرئبة من وراء باليرمو، جهة الجنوب، فان نور الشمس وضوء القمر لا ينعكسان على صفحة المياه في تلك السويعات. ويصطبغ البحر حتى في اسطع النهارات نوراً، بلون ازرق داكن، قوي، متصلب، ان جاز القول، في حين ان البحر في نابولي يميل، من الظهيرة فلاحقاً، الى الهدوء، والتلألؤ، والامتداد، ان جاز القول.
طفق كنيب يضع رسماً لجبل مونتي بيليجرينو، تاركاً لي فسحة التجوال، وجمع الملاحظات لنفسي.
اليكم بعض اللقطات، التي حصدتها وجمعتها على عجل:
تركنا نابولي يوم الثلاثاء الموافق 29 آذار (مارس) عند المغيب، ولم نصل باليرمو إلا في الثالثة من عصر اليوم الرابع للرحلة. لم يسبق لي ان قطعت رحلة هادئة كهذه، ولا نعمت بمثل هذا الهدوء كل هذا الوقت، رغم ان الرحلة استطالت بالريح المعاكسة باطراد، وبرغم دوار البحر الذي ألم بي في اليومين الاولين ليلزمني قمرتين. ان كان ثمة حدث حاسم في حياتي، فلا ريب انه يتجسد في هذه الرحلة عينها.
من يتعذر عليه ان يجد نفسه محاطاً بالبحر وحده من كل الجهات، لن يتوصل قط الى بلوغ تصور حقيقي عن العالم وعن علاقته بهذا العالم. ان خط الافق البحري، البسيط، النبيل هذا، أمدّني، بوصفي رسام مناظر طبيعية، بأفكار جديدة تماماً.
رفيق سفري الفنان شاب جذل، وفيّ، عطوف القلب، قادر على وضع ادق الرسوم، التي ستمتعون انظاركم بها يوم اجلبها لكم عند العودة. ولكيما يسري عن نفسه بقضاء الساعات الطوال في هذه الرحلة، فقد كتب وصفاً لتقنيات الرسم بالالوان المائية، موضحاً لي سبل استخدام الوان معينة لتوليد الظلال المرغوبة. ولما يتعلم المرء سر المزج هذا فانه سيظل يمزج ويمزج الى الابد، دونما طائل، بحثاً عن السر. سبق لي ان سمعت عن مزج الالوان هذا في روما، ولكن على نحو عابر وسريع. وما من بلد، باستثناء ايطاليا، امكن له ان يوصل هذا الفن الى هذا المستوى من الكمال.
اجدني عاجزاً عن الشروع في وصف استقبال ملكة الجزر هذه لنا ـ باشجار التوت الاسود باوراقها الخضراء اليانعة، واشجار الدفلى زاهية الخضرة، وصفوف اشجار الليمون، وما شاكل. ورأيت في احدى الحدائق العامة مربعات كبيرة تزهو بشقائق النعمان وورد الحوذان. ان الهواء معتدل، دافيء، شذيّ. علاوة على ذلك يرسل البدر المكتمل ضوءه المتلأليء فوق الاكمات البحرية، لينعكس على صفحة البحر؛ وهذا كله يأتيني بعد كل ذلك التقلب في الامواه على مدى اربعة ايام وليال! اغفروا لي خربشتي بهذا القلم الخشن، المغموس بالحبر، الذي يستخدمه صديقي لتغميق خطوط رسوماته. فلسوف يصلكم الوصف مثل همسة، فأنا اعد العدّة لاقامة نصب آخر لذكرى هذه السويعات السعيدة. لن اكشف لكم فحواها الآن، ولن اقول لكم حين تتلقونها.