باليرمو، 2 نيسان (أبريل)
بعد كثير عناء ومشقة، بلغنا الميناء أخيراً عند العصر. كنت قد استعدت عافيتي بالتمام، ورحت اتمتع بكل شيء تمتعاً وافياً. تربض المدينة قبالة الشمال، أما الجبال فتشمخ من ورائها. كانت اشعة شمس الظهيرة تسطع فوقها، فباتت المباني المواجهة لنا قابعة في الظل، ولا ينيرها سوى انعكاسات الضوء. وكانت خطوط جبل مونتي بيليجرينو المرهفة، جلية في نور الشمس الساطع، أما الساحل فيمتد أمام النظر، جهة اليسار، بما فيه من خلجان، وألسنة يابسة وأكمات.
ثمة اشجار باسقة ذات خضرة زاهية أمام المباني المعتمة، وقد انارت الشمس ذؤوابات هذه الاشجار من الخلف، وهي تتمايل مثل حشرات الليل اللامعة. واسبغ الغبش الضبابي غلالة زرقاء على الاشجار كلها.
لم نسرع الى الشاطيء فارغي الصبر، بل مكثنا على متن السفينة حتى انزلونا. لعلنا لن نحظى بمثل هذه الاطلالة الرحبة لامتاع العين بما لذ من مشاهد.
دخلنا المدينة من بوابة بديعة تتألف من عمودين عملاقين من دون عوارض أو درفات، حتى تستطيع عربة سانتا روزاليا العملاقة ان تدلف في يوم عيدها الشهير. اخذونا الى نزل كبير. وجدنا صاحب النزل رجلاً كبير السن، ودوداً، باسما، ألف استقبال الغرباء من كل القوميات. قادنا الى غرفة فسيحة ذات شرفة تطل على الميناء وجبل سانتا روزاليا. فرحنا باطلالة غرفتنا هذه كثيراً، الى حد اننا لم نلاحظ الفجوة العالية التي تخفي ستائرها عن النظر سريراً واسعاً، عريضاً، تعلوه غلالة من الحرير. وينسجم هذا السرير الفخم مع بقية قطع الاثاث، الفاخر، القديم، الجدير بالملوك. شعرنا بالحرج بعض الشيء من هذه الفخامة المتباهية، وتهيأنا، كالعادة، للجدل في شروط التأجير، لكن الرجل المسن قال انه يترك لنا البت في السعر ولواحقه؛ وان كل ما يأمله هوان يعجبنا المقام هنا. واضاف ان في وسعنا استخدام الصالة المجاورة لغرفتنا، وهي صالة منيرة، حلوة، ذات تهوية حسنة، بفضل شرفتها الواسعة.
تتوفر للفنان ثروة لا تنضب من المشاهد كي يرى، فدرسناها الواحد بعد الآخر بعين تواقة لرسمها جميعاً.
اغوانا ضوء القمر في الليلة ذاتها على التنزه مشيا الى الميناء وعودة منه. قبل الهجوع في الفراش، اطلنا الوقوف في الشرفة. كان الضياء خارقاً، وكل شيء يرفل في غلالة من السكينة والفتنة.