29 كانون الاول (ديسمبر)




يتبغي ان احكي لكم المزيد عن تيشباين وصفاته الرائعة: وعلى سبيل المثال كيف انمى ثقافته، هذا الالماني الاصيل. وينبغي لي ايضا ان اقول بامتنان انه كان صديقاً مخلصاً لي خلال فترة مكوثي الثانية في روما. فلقد رعاني رعاية متصلة، ودبر لي حشداً من اعمال كبار الاساتذة استنسخت بخاصة لي، بعضها بالباستيل الاسود، واخرى بالحبر والالوان المائية. ستكون هذه النسخ لي في المانيا ذات قيمة لا تقدر بثمن حين اكون بعيدا عن الاعمال الاصلية.

ابتدأ تيشباين حياته بالسعي الى ان يكون رسام بورتريهات، وتعرض في مجرى عمله الى الاحتكاك باناس بارزين، وبخاصة في ميونيخ، شذبوا ذائقته ووسعوا مداركه وأفقه.

حملت معي كتاب "اوراق مبعثرة" وهو موضع ترحيب مضاعف هنا. وينبغي ابلاغ هيردر، على سبيل المجازاة، ابلاغاً مفصلاً عن الانطباع الحسن الذي يخلفه هذا الكتاب الصغير عند اعادة قراءته. ويقول تيشباين انه لا يمكن ان يصدق ان المؤلف وضع كتابه هذا من دون ان يأتي الى ايطاليا.

يعيش المرء، ان جاز القول، في مستعمرة الفن هذه، في غرفة ملأى بالمرايا، يرى فيها المرء، شاء أم أبى، نفسه وسواه المرة تلو المرة، بلا انقطاع.

لقد لاحظت مراراً ان تيشباين يتفرس فيّ عن كثب، والآن عُرف السبب؛ انه يروم رسم بورتريه لي. لقد انجز التخطيط الاولي، وثبت قماشة اللوحة على الاطار. سيكون البورتريه بالحجم الطبيعي. ويروم تيشباين ان يصورني كرحالة، متلفع بعباءة بيضاء، جالساً على مسلة ساقطة، متطلعاً الى خرائب كامبانيا دي روما، في خلفية اللوحة. سيكون الرسم بديعا، لكنه اكبر من ان يناسب بيوتنا نحن اهل الشمال. آمل ان اجد، ثانية، زاوية منعزلة لنفسي، لن يكون فيها مكان للبورتريه الشخصي.

رغم كل ضروب المحاولات التي بذلت لجري الى الخروج من التخفي، ورغم كل الشعراء الذين قرأوا لي نتاجاتهم شخصياً، أو ارسلوها ليقرأها آخرون نيابة عنهم، ورغم اني استطيع ان احتل موقعاً بارزاً، كبيراً، بكلمة واحدة مني، فقد لزمت قراري. ومن الممتع حقاً ان اكتشف ما يسعون اليه. فكل حلقة صغيرة تبدي بين آونة واخرى روح البلدة الاقليمية النائية، رغم ان افرادها يجسلون عند اقدام روما، ملكة العالم. الواقع ان هؤلاء لا يختلفون، هنا، عن اقرانهم في أي مكان آخر. وانني لاشعر اصلاً بالقرف من فكرة ما يريدون ان يفعلوه معي أو عن طريقي. فذلك يعني ان انضم الى زمرة، واناصر اهواءها واحابيلها، وان اطري فنانيها ونقادها، وان استصغر شأن غرمائها، وان اتظاهر بكل ما يرضي اصحاب النفوذ والثراء. ما الذي يوجب عليّ ان اضيف صلواتي الى هذه الابتهالات الجمعية التي تدفعني الى ان اتمنى لو اني كنت على كوكب آخر؟ وأي نفع في ذلك؟

كلا، انني ارفض الانجرار الى التورط عميقاً، واقصد من جهتي، انني سأبقى بعيداً، وحين اعود الى الوطن، ساقارع، في نفسي كما عند الآخرين، رغبة التسكع التائه في العالم العريض، الفسيح.

مبتغاي ان أرى روما الازلية، لا روما المستبدلة باخرى كل عقد من السنين. لو توفرت لديّ فسحة اكبر من الوقت، لاستثمرتها على نحو افضل. وان التاريخ هو ما يطالعه المرء هنا بصورة تختلف عن أي مكان آخر في العالم. ففي سائر الاصقاع يبدأ المرء مما هو براني، ليمضي الى ما هو جواني؛ فالتاريخ كله يطوقنا، والتاريخ كله، ينبعث منا. ولا يصح هذا على تاريخ روما وحدها، بل ينطبق على تاريخ العالم كله. اذ يمكن لي، في هذا المكان، ان اصاحب الفاتحين في غزواتهم الى الفيسر أو الى الفرات، أو، ان شئت ان اقف واحدق، ان انتظر عودة الفاتحين الظافرين في شارع فياساكرا. في غضون ذلك تجدني اقتات على النزر المقتر من الحبوب والنقود، لأغرف حصتي المشبعة من هذا البهاء.