10 كانون الثاني (يناير)




ها هنا، اذن، "طفلة احزاني". ان افيجيني تستحق هذه الشاهدة باكثر من معنى. حين تلوتها على حلقتنا اشرّت بعض الابيات وشذبت بعضها نحو الاحسن، على ما اظن، وتركت الباقي على حاله، آملاً ان يصححها هيردر بلمسة أو لمستين من قلمه. لقد انكببت على العمل فيها حد الذهول عن سواها.

ان السبب الذي يدفعني، منذ سنوات عدة، الى ان افضل الكتابة نثراً هو ان علم العروض عندنا في حالة كبيرة من الغموض. وان اقراني الاذكياء، الباحثين، تركوا الخيار لذائقة الكاتب وفطرته. ثمة افتقار الى مرتكز مبدئي في علم العروض. وما كنت لأجرؤ ابداً على اعادة كتاب افيجيني في بحر (البسيط)، لولا ان هداني نجم كتاب موريتز "علم العروض". وان صلتي الحميمة بالمؤلف، وبخاصة خلال فترة رقوده في فراش المرض، انارت عقلي فاستزاد في هذا الموضوع، واني لارجو اصدقائي ان يمحضوا نظريته اهتمامهم العطوف.

من الحقائق العجيبة ان لغتنا تخلو إلا من قلة من المقاطع اللفظية الطويلة تماما أو القصيرة تماما؛ وان الامر في معظمها يرجع الى الذائقة والاختيار. واستخلص موريتز في نظريته وجود مراتبية متدرجة في المقاطع اللفظية. وان المقطع الأهم لمعنى المفردة طويل لفظياً، وهو يقصّر المقطع اللاحق، الاقل اهمية للمعنى. من جهة اخرى، يكون المقطع اللفظي الواحد ذاته قصيراً، ان جاء بعد أو قبل المقطع الذي يحمل الوزر الاكبر للمعنى. ها انتم ترون ان ثمة مرتكز نستطيع التمسك به، حتى على افتراض ان ذلك لا يحل كل شيء، فان لدينا، في الاقل، خيطاً نهتدي به على الطريق. لقد امتثلت دوما لنصح هذه القاعدة، ووجدتها متساوقة مع احساسي باللغة.

ذكرت آنفاً انني قرأت مسرحيتي على حلقتنا. دعوني الآن اوجزكم القول في مآل هذه القراءة. لقد اعتاد اولاء الشباب على اعمالي السابقة، المتخمة بعاطفة مشبوبة، فباتوا يتوقعون شيئاً على غرار مسرحيتي: وثن من بيرليشنجن، ولم يستطيعوا باديء الامر ان يحملوا انفسهم على تقبل المجرى الهاديء للابيات، رغم ان بعض المقاطع البسيطة، ذات النبرة العالية، لم تمض من دون ان تترك اثرها. وان تيشباين، الذي لا يميل بذائقته الى مثل هذا الكبح للعاطفة، عبّر عن رأيه في استعارة أو ترميز جميل. لقد شبّه عملي، بنذر محروق، ينبعث منه دخان شفيف، يكبحه نسيم رقيق عن الصعود، فيمكث خفيضاً على الارض، أما ناره فتجهد لأن تشب ثانية. وان رسمه المرفق مع النص ينطوي على فتنة ومغزى، على ما اظن.

وهكذا فان العمل الذي ظننته سيكتمل سريعا، راح يسليني، ويحتجزني، ويشغلني، ويعذبني على مدى اشهر ثلاثة كاملات. وما هذه بالمرة الاولى

التي اعامل بها امرا على جانب عظيم من الاهمية معاملة استخفاف كما لو كان شأناً صغيراً؛ ولكن كفانا جدالاً وتفلسفاً حول هذا.

ارفق لكم نقشاً جميلاً على الحجر ـ شبل صغير وذبابة تطن قرب انفه. كان هذا من المواضيع المحببة الى القدماء، فعالجوه مراراً وتكراراً. احب ان اختم على رسائلكم بهذا النقش في المستقبل، حتى يقوم هذا الختم الصغير مقام صدى فني يتردد بيني وبينكم.