25 كانون الثاني (يناير)
اواجه صعوبة متنامية في ان اسرد سرداً ملائماً حكاية بقائي في روما. فكلما توسعت في مشاهدة المدينة، تفاقم الاحساس عندي بأني خائض في مياه عميقة.
من المحال فهم الحاضر من دون معرفة الماضي، وعقد المقارنة بين الاثنين. واحتاج لهذا وقتاً اكبر، وتشتتاً أقل. ان موقع المدينة ذاته يعيد المرء القهقرى الى زمن تأسيسها. وسرعان ما نكتشف ان الناس الذين استقروا هنا وانشأوا مركزاً امبراطورياً، ما كانوا عظماء، أو قادة حكماء. وليس ثمة سلطان جبار اختارها موضعاً موائماً لمركز مستعمرة. كلا، فروما بدأت، أول ما بدأت، ملاذا للرعاة والرعاع. وعمد شابان قويان، هميمان، الى ارساء الأسس لقصور سادة العالم عند سفح تلك التلة ذاتها التي استقر عليها، ذات يوم، غاصب مستبد، ليلقي بهم في العراء، وسط اعواد القصب، والمستنقعات. وان التلال السبعة، ان قيست بالقيعان الرابضة وراءها، ليست تلالاً البتة؛ وما هي بتلال إلا قياساً الى قاع نهر التيبر، الذي تحولت ضفافه الى حقل ما ريتوس (Compus Maritus)، واذا ما اتاح لي الربيع القيام بجولات اخرى، فلسوف استطيع ان اصف سيئات هذا الموقع في اسهاب. ويسعني، حتى في هذه اللحظات، ان اسمع، بكل ما في قلبي من اشفاق، ندب نساء ألبا على دمار مدينتهن، وسوقهن بعيداً عن هذا الموقع الجميل، الذي اختاره قائد ما محنك. واستطيع ان اصورهن، بعين الخيال، محتشدات على تلة كوليان البائسة، ملفعات بضباب نهر التيبر، ناظرات الى فردوسهن المفقود. لا اعرف إلا القليل عن الريف المحيط بروما، لكني على يقين من ان روما اسوأ مستقر مما استقرت عليه الشعوب القديمة. وحين ابتلع الروم كل الاشواك، حتى يعودوا الى العيش والتمتع بلذائذ الحياة، راحوا، آخر المطاف، يغادرون روما، من جديد، ليبنوا لهم فيلات ريفية على اطلال المدن التي دمروها.