28 كانون الثاني (يناير)
يوحي لي كل ما يحيط بي ان امضي في خطين متوازيين من الاستقصاء، لن اتوانى عن اتباعهما حين ارى طريقي في وضوح اكبر. الخط الاول هو الآتي: حين تقع عين المرء على مرأى الثراء الهائل في هذه المدينة، وان كان مؤلفاً من شظايا متناثرة، يجد نفسه ملزما بالسؤال عن زمان مجيئها الى الوجود. كان فينكلمان اول من حثنا على وجوب التمييز بين شتى الحقب، واقتفاء أثر تاريخ اساليب الفن والعمارة في نشوئها واندثارها، المتعاقب. وان أي محب صادق للفن سيقر بعدالة واهمية هذا الحث.
ولكن أنّا لنا ان نبلغ هذه المعرفة؟ فأعمال الحفر المنجزة اقل من المطلوب؛ ومع ان المبدأ العام قد أرسى على نحو جلي، فان التفاصيل تبقى مبهمة، غامضة. ثمة حاجة الى تدريب العين على الرؤية تدريباً خاصاً على مدى سنوات، ويتعين علينا، اولا، ان نتعلم ما تنبغي اثارته من اسئلة. ولا نفع في التردد والتسويف. وما ان يقع الدارس الحصيف على السؤال الصحيح، ويدرك مغزاه وجسامته، حتى يفهم ان الحكم، في هذا الميدان كما في سواه، محال من دون التوفر على معرفة بالتطور التاريخي.
أما الخط الثاني في الاستقصاء فيتعلق، حصراً، بفن الاغريق: ما هي الصيرورة التي عمل بها اولئك الفنانون المتفردون على ان يطوروا، انطلاقاً من الجسم البشري، دائرة من الاجساد الشبيهة بالآلهة، دائرة هي ذروة الكمال الذي لا تشوبه شائبة، ولا ينقصه ملمح عابر أو انتقالي؟ تنبئني غريزتي انهم ساروا على هدي الاحكام التي سارت عليها الطبيعة، واعتقد اني مقتف آثارها على الدرب. غير ان ثمة عنصراً آخر فاعلاً اجدني عاجزاً عن التعبير عنه.