16 شباط (فبراير)
عرفت بنبأ وصول افيجيني سالمة على نحو مفرح ومدهش في آن. قبيل ذهابي الى الاوبرا تلقيت رسالة بخط يد مألوف ـ ففرحت بها مضاعفاً لأنها حملت ختم الاسد الصغير، وفهمت ان رزمتي وصلت سالمة. شققت طريقي الى دارة الاوبرا، وبحثت عن مكان للجلوس تحت الثريا الكبيرة. وبغتة، شعرت، هناك، وسط حشد الاغراب، انني قريب من اصدقائي البعيدين، فتمنيت ان اثب اليهم، واعانقهم. اشكركم قلبياً على الاشارة البسيطة عن وصول المسرحية. آمل ان تحمل رسالتكم القادمة كلمة رضى عنها.
اليكم قائمة عن توزيع النسخ التي ستصدر عن جويشن على اصدقائي. انني لا اكترث قط بمدى تجاوب الجمهور مع قطعتي، لكني احرص حقاً على ان اقدم لاصدقائي بعض الامتاع.
انني اميل دوماً الى ان اثقل كاهلي باكثر مما ينبغي. وحين افكر بالمجلدات الاربعة القادمة التي اريد وضعها، يدور رأسي حقاً؛ وحين افكر بكل مجلد على حدّة، يهدأ روعي قليلاً. لعل من الحصافة ان اكتب المجلدات وفق مخططي الاصلي، وان آتي بهذه الاشياء الى الدنيا مجزأة. بعد هذا يمكن لي ان اخوض في موضوعات جديدة بعزم جديد وشجاعة جديدة، موضوعات اشعر فيها بالجديد من الاهتمام.
اما كان خيراً لي ان افرغ من كتابة "افيجيني في دلفي" عوض مصارعة امزجة تاسو؟ لكني وضعت الكثير من روحي، بل اكثر مما ينبعي، في المسرحية، لا لشيء إلا لأهجرها دون طائل.
اجلس الآن في الصالة عند المدفأة، حيث وهج النار، التي تغذى بالحطب مرة واحدة لا غير، يمدني بالشجاعة الكافية للبدء بصفحة جديدة. ما ابدع ان يستطيع المرء الايغال بخياله في المسافات البعيدة، لينقل اليها ما يحيطه الآن.
الطقس جميل، والنهارات تطول على نحو بين، واشجار البقس والغار تزهر شأن اشجار اللوز. وقعت هذا الصباح على مشهد خارق. رأيت في البعيد ما يبدو بمثابة اعمدة طويلة، ذات الوان برتقالية بديعة، في كل مكان. وعند معاينتها عن كثب، اتضح انها توازي ما يسمى في بيوتنا الزجاجية بالارجوان، أو ما يسميه علماء النبات سيرسيس سيليكواستروم. وان ازهار الارجوان، البنفسجية، الشبيهة بالفراشات، تنبجس من الساق مباشرة. انهم يقلمّونها في الشتاء، وهذا سبب مشاهدتي لسيقان الارجوان بهيئة قضبان خشب، أما براعم الازهار فقد نبتت آلافاً من الجذوع، لكأنها اسراب من الحشرات. ولا ينبت الزعفران أو النرجس بالكثرة ذاتها، إلا انه يؤلف زينة اكبر تناسقاً حيثما ينبت.
أية افراح وأية تجارب مثمرة مخبئ لي الاصقاع الجنوبية من هذه البلاد! عجائب ابداعات الطبيعة تماثل عجائب ابداعات الفن: لقد كتب الكثير عنها، مع ذلك يمكن لكل من يراها ان يرتبها في نماذج جديدة.
حين افكر في نابولي، أو حتى في صقلية كما اعرفها من القصص والصور، اجد الحيرة تتلبسني لأن أرى ان هذا الفردوس الارضي هو الموضع الذي تتفجر فيه البراكين وتنفث حممها الجهنمية منذ قرون، زارعة الفزع واليأس في قلوب اولئك الذين يقطنون هذه البقاع وينعمون بها.
وعلى كبر أملي في ان تتكشف هذه الانحاء عن بواطن هامة، ينبغي لي ان انبذ هذه التصورات عن تفكيري حتى اغرف اكبر ما يمكن ان اغرفه من عاصمة العالم القديم خلال ما بقي لي من ايام.
ها انذا، منذ اسبوعين، دائم التجوال، من الصباح الى المساء، معايناً الاشياء التي لم تسنح لي فرصة مشاهدتها من قبل، أو ملقيا نظرة ثانية أو ثالثة على خير ما ابصرت. بدأ كل شيء ينتظم في نسق واحد، ثمة اعمال كبرى تندرج في مكانها اللائق، فاسحة المجال لاعمال كثيرة ثانوية في الفراغات القائمة. ان ملامح سلم التفاضل تتبلور جلية عندي، وأما استجابتي العاطفية لما هو اعظم واكثر اصالة فهي الآن اكثر حرية واقل
جموحاً.
عند هذا الحد يشعر المرء، تلقائياً، بالحسد من الفنانين، فحين ينتجون هذه المشاهد العظيمة، ويحاكونها، انما يقتربون من ماهيتها خيراً من أي انسان يكتفي بالنظر والتفكّر. ولكن، بعد كل هذا، لا يسع المرء ان يفعل إلا ما يقع في متناول قدرته، لذا نشرت كل اشرعة روحي حتى ابحر مستكشفاً الشطآن.
حشي الموقد هذا اليوم بأحسن انواع الفحم، وهو أمر نادر الحصول، نظراً لصعوبة العثور على امرء يتمتع بالفراغ والميل الكافيين لتخصيص ساعة أو ساعتين للعناية بنار الموقد. ساغتنم فرصة لطف حرارة الجو لانقذ بعض يوم الثاني من شباط (فبراير) ذهبنا الى مصلى كنيسة سيستين لقداس مباركة الشموع. اثار ذلك الضيق في نفسي، فغادرت مع اصدقائي. دفاتر ملاحظاتي قبل ان تستغلق على القراءة كلياً.
وفكرت في دخيلتي: تلك هي الشموع ذاتها التي سودت، طوال ثلاثة قرون، الرسوم الجدارية، وهذا هو البخور نفسه الذي حجب، بغطرسة المقدس، شمس الفن بالغيوم، واضعف نورها عاماً بعد عام، ليصيبها اخيراً بالكسوف التام.
خرجنا الى الشوارع ماشين حتى وصلنا سانت اونفوريو، حيث يرقد ضريح تاسو في زاوية منه. هناك تمثال نصفي لتاسو في مكتبة الدير. الوجه شمعي، وكفيل باقناعي انه قناع موت. ثمة مواضع مشوهة، وتالفة في التمثال، مع هذا يتكشف القناع، خيراً من البورتريهات التي رسمت لـه، عن شخصية انسان موهوب، رقيق، مرهف، نبيل، ومنطو على نفسه.
كفانا اليوم طوافاً. يتوجب الآن ان التفت الى مجلد فولكمان الثاني حول روما، لأستنسخ منه المقتبسات المتصلة بما رأيت اليوم من اشياء. ينبغي ان ابدأ الحصاد قبل السفر الى نابولي. ولابد ان اليوم السعيد سيحل حين اجمع الغلة في السلال.