فوندي، 23 شباط (فبراير)
واصلنا الرحلة في ساعة مبكرة، قرابة الثالثة فجراً. انبلج الصبح علينا عند مستنقعات بونتين، التي تبدو كئيبة، موحشة مثلما يصفها الناس في روما عادة.
لا يسع المرء وهو في رحلة مرور عابر ان يصدر حكماً قاطعاً على مشروع طموح وكبير كمشروع عمليات تجفيف المستنقعات الذي بوشر به نزولا عند اوامر البابا، إلا ان العمل، كما يلوح لي، سيصيب نجاحاً كبيراً.
لكم ان تتخيلوا وادياً فسيحاً، يمتد من الشمال الى الجنوب دون وهدة، لينغمس في الجبال شرقاً، ويشرأب الى البحر غرباً. ويمتد على طول هذا الوادي بأسره خط مستقيم يمثل شارع فيا آبيا المرمم، وتحفه من اليمين القناة الكبرى، وهي قناة بزل للاراضي الواقعة جهة البحر، التي اعيدت الآن الى الزراعة. الواقع ان هذه الاراضي كلها مغروسة بالزروع على امتداد البصر، باستثناء بقع قليلة من الاغوار، أو قابلة للزرع ان وجد زارعون يستأجرونها.
أما الاراضي الواقعة على الجانب الجبلي من طريق فيا آفيا، فتمثل مشكلة عويصة. لقد شقت القنوات العريضة التي تصب في القناة الكبرى، من خلال سدة الشارع، لكنها لا تستطيع نقل مياه البزل. وقيل لي ان هناك خطة لحفر قناة بزل ثانية على امتداد قاع الجبل. ثمة اشجار صفصاف وحور نمت عرضاً، بفعل ما تحمله الريح من بذور، على امتداج ساحات واسعة، وبخاصة حول تيراتشينا.
لا تزيد محطات السفر عن ظليلة واسعة مسقوفة بالقش. رسم تيشباين احداها، فحظي بمشهد لا يتمتع به احد متعة كاملة سواه. افلت حصان ابيض من اساره في اراضي البزل، وراح يحتفي بحريته، ليخب ويعدو كالشهاب على التراب البني لهذه القيعان. بدا المشهد عظيماً، أما انخطاف تيشباين به فقد اضفى عليه مغزى عظيماً.
أمر البابا باشادة مبنى عظيم في موقع قرية ميسا السابقة، في وسط هذه المنطقة، ابتغاء اشاعة الأمل والثقة بالمشروع كله. وهكذا مضينا في الرحلة، لاهين في حوار حي، متذكرين التحذير من الوقوع في اغفاءة على هذا الطريق. ولو اغفلنا عن التحذير، لكان الزفير الازرق، الذي يخيم، حتى في هذا الوقت من العام، على الارض بارتفاع معين، قد ذكرنا بالعفونة الخطيرة. إلا ان هذه الزرقة جعلت مقام تيراشينا الصخري محبباً، واتيح لنا في الحال ان نرى البحر منبسطاً أمامنا. أما الجانب الآخر من مدينة الصخر هذه فيقدم مشهد مزروعات غير مألوف. فهناك اشجار التين الهندي التي تشق اوراقها اللدنة، الكبيرة، طريقها بين شجيرات الآس المتواضعة، الضاربة الى الخضرة الرمادية، والرمان الاخضر المشوب بالصفرة، واغصان الزيتون، ذات اللون الاخضر الشاحب. وتنبت على جانب الطريق ازاهير غريبة لم نشهد لها مثيلاً من قبل. وتحفل المراعي بازاهير النرجس والزنبق. طالعنا البحر عن يميننا حيناً واحتجب حيناً، أما التلال الجيرية القريبة عن يسارنا فظلت متصلة بلا انقطاع. انها امتداد لهضاب ابيناينس، وهي تنحدر من تيفولي حتى تبلغ البحر الذي تفصلها عنه كامباني دي روما اول الاول، ثم تفصلها عنه ثانياً البراكين الخامدة في فراسكاتي والبانو وفيليتري، لتفصلها عنه اخيراً مستنقعات بونتين. ولعل نتوء جبل مونتي تشيرتشيللو، جيري هو الآخر، وهو يطل على البحر ويواجه تيراشينا، مسجلاً نهاية مستنقعات بونتين.
نأينا عن البحر الآن، واقتربنا من سهل فوندي. ان هذه البقعة الصغيرة من التربة الخصيبة، المسورة بجبال غير وعرة، تستقبل كل مسافر بابتسامة. مايزال معظم البرتقال متدلياً في الاغصان، والزرع الغر ـ قمح بمعظمه ـ يزين الحقول بالخضرة، أما البلدة الصغيرة فتقبع هناك في الاسفل. ثمة نخلة وحيدة تربض على الطريق فحييناها. لقد اترعت ليلتنا. اغفروا لي عجالة القلم. فموضوعات الاهتمام اكثر من اللازم، ومقام نزولنا ابأس من اللازم. لكني عاجز عن ثني الرغبة في تدوين شيء على الورق. وصلنا هنا عند المغيب، وحان وقت الرقاد.