سانت أجاتا، 24 شباط (فبراير)
الغرفة باردة، بيد ان عليّ ان اصف لكم روعة النهار البديع. كان الفجر قد انبلج لتوه حين غادرنا فوندي في العربة، لنجد في استقبالنا البرتقال المتدلي فوق الاسيجة، على جانبي الطريق. ان الاشجار لمثقلة بالوفير من الثمر، الى درجة لا تصدقها عيناي. الوريقات الصغيرة في القمة ضاربة الى الصفرة، أما الاوراق السفلى فخضراء زاهية. لقد كان ميجنون Mignon محقاً تماماً في التهلف لبلوغ هذا البلد.
بعد هذا وصلنا حقول قمح حسنة الحرث، تتخلل صفوف القمح اشجار زيتون منتظمة. وحين تحركها الريح، تقلب قفا اوراقها الفضي نحو الشمس، أما الاغصان فتتمايل في رشاقة. كان الصباح غائماً، غير ان ريحاً شمالية قوية تعد بقشع الغيوم.
اخذ الطريق الآن يجري على طول واد بين حقول ملأى بالصخور، ولكنها حسنة الزراعة، وزرعها الغض زاهي الخضرة. ورأينا في مواضع عدة ارضية دائرية فسيحة مفروشة بالحجارة لدرس الحبوب، وهي محاطة باسوار واطئة. انهم لا يجلبون الذرة الى الاهراء، بل يدرسونها في الحقل. ضاق الوادي، واخذ الطريق يرتقي باطراد جرفاً صخرياً من الكلس الخاص يحف به من الجانبين، بينما هبت في ظهورنا ريح قوية، وبدأت ندف الثلج الخفيف تتساقط، وتذوب ببطء.
اثارت اسوار بعض المباني القديمة، الممتدة في شبكة نموذجية، فضولنا الكبير. كان الكثيب صخرياً، إلا انه مزروع باشجار الزيتون، أينما توفرت اصغر فجوة لنموها. بعد ذلك اجتزنا سهلاً من غياض الزيتون، حتى بلغنا بلدة صغيرة. ولاحظنا هناك شواخص اضرحة من زمان القدماء مبنية في جدران حديقة، تتخللها كسر وشظايا من شتى الانواع، كما لاحظنا ارضيات فيلات قديمة، مفروشة بالآجر، إلا ان التراب يكسوها الآن، مثلما تكسوها اجمات اشجار زيتون نمت عشوائياً. وبعد هذا... نعم بعد هذا اطل بركان فيزوف مكللاً بغمامة من دخان.
استقبلتنا اشجار البرتقال الوفيرة، مرة اخرى، عند بلوغنا مولادي جايتا. مكثنا هناك ساعات قلائل. الخليج الرابض أمام هذه البلدة الصغيرة يطل على افق البحر وشريط ساحله. ويتخذ الشاطيء هيئة هلال. وان ذؤابة الهلال الواقعة على اليمين، وهي صخرة تربض عليها قلعة جايتا، ليست بعيدة، أما الذؤابة اليمنى للهلال فأبعد بكثير. وحين يتابعها المرء ببصره يرى، اولا، سلسلة جبال، ثم يرى بعد ذلك بركان فيزوف، والجزر التي تليه. وتواجه هلال الساحل، عند منتصفه تقريبا، جزيرة اسكيا.
وجدت في رمال الشاطيء اول نجمة بحر واول قنفذ بحري أراه في حياتي. والتقطت ايضا ورقة خضراء حلوة، اخف من الرقوق، كما وجدت بعض الحصى الغريب. كان حجر الكلس والحصى هما الاكثر شيوعاً، بيد ان هناك ايضا عينات من حجر الحية، الاخضر المرقط، وحجر اليشب الاخضر الضارب للسواد، وحجر الكوارتز، والصوان الداكن اللون، والرخام السماقي، وشتى ضروب المرمر، والزجاج الازرق المخضر، ويصعب على هذه العينات الاخيرة ان تأتي من هذه المنطقة ولعلها على الارجح شظايا من بنايات قديمة. وهكذا يشهد المرء الامواج تلعب امام ناظريه ببهاء عالم مندثر، اقدم عهداً. ومكثنا لاهين، مستمدين ضروب التسلية من مراقبة طبائع الناس، الذين يشبهون في سلوكهم قبيلة بدائية من قبائل البشر. وبعد ان خلفنا مولا وراءنا، صادفتنا مناظر حلوة على طول الطريق، حتى بعد ان توارى البحر عن الانظار. وكان آخر من نراه منه خليج جميل، عملنا لـه رسماً تخطيطياً. بعد هذا مررنا بريف مترع بالثمار، المسيجة اشجاره بسياجات من نبات الصبّر المرّ. ورأينا ايضا قناة علوية من الحجارة تمضي من الجبال صوب كومة اطلال وخرائب لا شكل لها.
عبرنا نهر جاليجليانو، فمضى الطريق في اتجاه اكمة جبلية عبر رقعة خصيبة، لا تثير الاهتمام. اخيرا، لاح اول تل مؤلف من رماد البراكين. وابتداء من هذه النقطة، دخلنا شبكة مترامية من التلال والوديان، تحفها في الخلف سلاسل جبال مكللة بالثلج. ولفتت نظري بلدة شاردة على تلة في الجوار. وتربض سانت اجاتا في الوادي، حيث يوجد نزل موقر رحب بمقدمنا بمدفأة وموقد، صمم على شكل صندوق. بيد ان غرفتنا كانت باردة برودة الصقيع، ولم تكن فيها نوافذ، بل مجرد مغاليق ـ لذا يتوجب ان اسرع في كتابة هذه السطور.