نابولي، 25 شباط (فبراير)




وصلنا اخيراً بسلام، وبفأل حسن. ليس عندي الكثير مما اضيف عن اليوم الاخير من رحلتنا. تركنا سانت اجاتا عند بزوغ الشمس. وهبت طوال النهار ريح شمالية شرقية في ظهورنا هبوباً عاتياً بلا هوادة، ولم تفلح في تبديد الغيوم إلا عصراً، وعانينا كثيراً من البرد القارص.

قادنا الطريق ثانية بين وفوق تلال بركانية، اخذت التشكيلات الكلسية تخف من ثناياها. ثم وصلنا اخيراً الى سهل كابوا، فمدينة كابوا ذاتها، حيث امضينا استراحة منتصف النهار. أما بعد الظهر، فقد مضينا ننهب سهباً منبسطاً يمتد على مدى البصر. وكان الطريق، العريض، العالي، يمضي وسط حقول قمح خضراء؛ وهي حقول عالية، ممتدة امام النظر مثل بساط. ثمة صفوف من اشجار الصفصاف منزرعة في الحقول، تتخللها كروم تستظل باغصانها. تلك هي صورة الطريق التي لم تتبدل حتى نابولي. التربة هنا هشة، خالية من الاحجار، ومزروعة على احسن صورة. وان سيقان الكروم قوية، طويلة، وتتشابك المتسلقات مثل الشباك، من شجرة حور الى اخرى.

كان بركان فيزوف يربض عن يسارنا طوال الوقت، نافثاً غمامات دخانه الرهيبة، فاغتبط قلبي لمرأى هذه الظاهرة العجيبة رؤية العين اخيراً. صفت السماء باطراد، حتى اخذت الشمس تلفح مقامنا، المزدحم، المتأرجح، في العربة. ولما بلغنا ضواحي نابولي، خلت السماء تماما من الغمام، فبتنا حقاً في بلد آخر. وطفقت المنازل ذات السقوف المستوية تنبيء بوجود طقس آخر، رغم اني اتجرأ على القول انها ليست مريحة من الداخل. الناس جميعا في الشوارع يرفلون في اشعة الشمس طالما نزعت هذه الى الطلوع. ويؤمن النابولي، ايماناً راسخاً، انه يعيش في الفردوس، وينظر الى بلدان الشمال نظرة غمّ تقبض الصدر. وهو يصور حياتنا في الشمال بقوله:

Sempre neve, case di Legnu, gran ignoranza, ma denari assai

وابتغاء تنوير سائر الشماليين، فمعنى العبارة هو هذا:

"الثلج ينزل على مدار السنة، والبيوت خشبية، والجهل كبير، لكن المال وفير."

تعلن نابولي عن نفسها منذ اللحظة الاولى بوصفها مدينة مرحة، حرة، حية! جيش غفير يمضي في كل حدب وصوب، الملك خارج الى الصيد، الملكة حبلى، وكل شيء على ما يرام مع العالم.

26 شباط (فبراير)

فندق السنيور ماريكوني، وسعة القلعة ـ (بالايطالية) هذا هو العنوان الرنان، الطريف، الذي يمكن لسائر الرسائل من جهات الكون الاربع ان تصلنا فيه.

توجد على مقربة من القلعة الكبيرة عند البحر فسحة واسعة محاطة بالمنازل من كل الجهات، مع هذا لا يسمونها "ساحة" Piazza بل "وسعة" Largo ـ أو المكان الفسيح، وهو اسم يرجع الى عهد بعيد، على الارجح، حين كانت المدينة ماتزال فضاء. عند احد زوايا الوسعة ثمة منزل كبير استأجرنا فيه غرفة ركنية فسيحة، حتى نتمتع بتملي الساحة الضاجة بالحركة، دون ان يحجب عنا أي عائق هذا المشهد. وهناك شرفة من الحديد تحيط كل ا لنوافذ، وتلتف حول الركن. ولا يمل المرء من هذه الشرفة لولا البرد القارص الذي يخز العظام. أما ديكور الغرفة فبديع، خصوصا الزخارف الدقيقة الغائرة في السقف، حيث تعلن لك مئات الزخرفات انك لست بعيداً عن بومباي أو ارض هرقل. وهذا كله حسن ورائع، لولا ان الغرفة تخلو من مدفأة أو موقد، ولما كان شباط (فبراير) يمارس حقوقه حتى في هذه المدينة، فقد كنت اتلهف الى وسائل تمدني بالدفء.

جيء لنا بمرجل ثلاثي القوائم على درجة كافية من الارتفاع تتيح للمرء ان يمد يده فوقه من غير ان ينحني، وربط بهذا المرجل الثلاثي وعاء غير عميق، مُليء بجمر وهاج، دقيق، مكسو بطبقة خفيفة، مستوية، من الرماد. وقد تعلمنا في روما وجوب الاقتصاد باستعمال وسيلة التدفئة هذه. ولابد من ازالة طبقة الرماد المتراكمة، بين الحين والآخر، باسلوب حصيف، بواسطة رأس مفتاح، حتى ندع الهواء يصل الى الجمر. أما اذا فقد المرء صبره، واجج مجمرة الفحم، فقد يشعر بمزيد من الدفء للحظة، إلا ان الجمر سيذوي ويتلاشى، فيضطر عندئذ الى ان يدفع المعلوم حتى يملأ الوعاء فحماً من جديد.

لم اكن اشعر انني على ما يرام، فاردت، على نحو تلقائي، المزيد من الراحة. مددنا بساطاً من القش ليحميني غوائل الارضية الحجرية الباردة. ولما كان الفراء غريباً على المدينة، قررت ان البس الصداري القصير الذي جئنا به معنا على سبيل المزاح. ربطت الصداري حول وسطي بحبل انتزعته من حقيبة سفري. لابد ان منظري كان هزلياً، منظر يقع بين بحار وكاهن كبوتشي. حين عاد تيشباين من زيارة بعض الاصدقاء ورآني في هذا الحال انخرط في ضحك صاخب لا ينقطع.