9 آذار (مارس)




استلمت اليوم رسائلكم العزيزة، المؤرخة في 16 شباط (فبراير). ارجوكم ان تواضبوا على الكتابة. لقد اعطيت توجيهات دقيقة للبريد اثناء غيابي، وساواصل هذا الترتيب ان تعين عليّ السفر بعيدا.ً من هذا الموقع النائي يبدو ان من الغريب ان اقرأ ان اصدقائي لا يلتقون كثيراً، ولكن من المعروف انه حين يعيش الناس على هذا القرب من بعضهم، فان من الطبيعي ألا يلتقوا إلا لماماً.

بات الطقس كالحاً ـ هذه علامة تغيير. الربيع يقترب، والمطر سينهمر علينا. لم تعد قمة فيزوف ترى منذ ان صعدته. رأينا خلال الاماسي القليلة الماضية ألسنة اللهب تتصاعد منه احياناً، أما الآن فالبركان هاديء. ويتوقع ان ينفجر اشد عنفاً من ذي قبل.

قدمت لنا عواصف الايام الماضية صورة بحر رائع، وسمحت لي بدراسة حركات الموج واشكاله. حقاً ان الطبيعة هي الكتاب الوحيد الذي تمتليء صفحاته بالهام من المحتويات.

أما المسرح، من الجانب الآخر، فلم يعد يمدني بالمتعة. ويعرضون هنا، خلال فترة الصوم الكبير، عروض اوبرا دينية. والفرق الوحيد عن الاوبرا الدنيوية، ان العرض الديني يخلو من رقص الباليه بين الفصول؛ ما عدا ذلك فانه لا يقل عن نظيره الدنيوي مرحاً. ويعرض مسرح سان كارلو مسرحية "تدمير القدس على يد نبوخذ نصر". لم يعد المسرح، في نظري، سوى صندوق فرجة على مقاس مكبّر. ويبدو انني فقدت القدرةعلى تذوق مثل هذه الاشياء.

زرنا اليوم الامير فالديك في قصر بالازو كابوديمونتي، الذي يضم مجموعة كبيرة من اللوحات والعملات، وغير ذلك من اشياء ثمينة، إلا انها ليست معروضة بشكل حسن. وقد اكد لي ما رأيت الكثير من التصورات التقليدية.

في بلداننا الشمالية نتعرف على الكثير من الاشياء، مثل العملات، والميداليات، واواني الزهور، بل حتى اشجار الليمون، من عينة واحدة فقط؛ أما حين نشاهدها هنا، في منبتها الاصلي، بهذه الوفرة، فانها تبدو مختلفة تماما. فحيثما تندر اعمال الفن، تصبح الندرة نفسها ذات قيمة؛ أما هنا حيث الوفرة شائعة، فان المرء يستطيع ان يدرس قيمتها الجوهرية.

يدفع الشراة مبالغ كبيرة حاليا لقاء آنية الزهور الاتروسكية، ولنكن على يقين من انها تضم قطعاً استثنائية. فكل اجنبي يريد اقتناء واحدة. ان المرء ينزع هنا الى فقدان الحذر في انفاق المال قياساً الى موطنه. واخشى ان تجرني هذه الغواية ايضا.

من لطائف السفر ان الحوادث العادية تماماً تكتسب مسحة مغامرة، بسبب جدتها وفجاءتها. بعد العودة من قصر كابوديمونتي قمت بزيارة اخرى، في المساء، لعائلة فيلانجيري. فرأيت امرأة شابة تجلس على الاريكة الى جوار سيدة المنزل، ولا يتفق مظهر هذه الشابة مع سلوكها المنبسط، الاليف. كانت ترتدي فستاناً خفيفاً من الحرير المقلم، وشعرها مصفف في تقليعة نزوة، فبدت هذه المخلوقة الصغيرة الحلوة اشبه بتلك الخياطات اللواتي يقضين جل وقتهن في الباس النساء الاخريات حتى ينسين انفسهن ولا يعدن يكترثن بمظهرهن. ولما كن يتلقين الاجر عن عملهن هذا، فلا يرين موجباً للاعتناء بهندامهن دون مقابل. ويبدو ان دخولي الى المنزل لم يؤثر فيها البتة، بل واصلت الحديث، وهي تقص الحكايا المضحكة عن امور حصلت لها خلال الايام القليلة الماضية، أو بالاحرى التي نجمت عن تصرفها الطائش. حاولت سيدة المنزل ان تجد كلمة تقولها لي وسط هذا الحرمان من الكلام، بأن تشير الى قصر كابوديمونتي وماله من موقع رائع وكنوز بديعة، لكن جهودها انتهت بالفشل. بعد هذا وثبت السيدة الصغيرة، الحيوية، لتقف على قدميها ـ وهي احلى عندما تقف بطولها ـ لتستأذن، وتهرع الى الباب، ولما مرّت بي قالت: "ستأتي عائلة فيلانجيري للعشاء عندي ذات يوم من هذه الايام. آمل ان اراك ايضا." ومضت حتى قبل ان استطيع ان انبس بكلمة قبول الدعوة. وفهمت من سيدة المنزل انها الاميرة ـ س، وانها وثيقة الصلة بالعائلة. ان اسرة فيلانجيري ليست على ذلك القدر من الثراء، وهي تعيش في منزل متواضع، إلا انه انيق الطراز. وتخيلت ان الاميرة الصغيرة لابد ان تكون على هذا المقام المتواضع ايضا، خصوصا وانني اعلم ان مثل هذه الالقاب الرنانة ليست نادرة في نابولي. دونت اسمها ويوم الدعوة، وساعتها، حتى اتوجه الى المكان المحدد في الوقت المحدد.