16 آذار (مارس)
وصلتني رسالتكم الترحيبية المؤرخة في 19 شباط (فبراير) هذا اليوم، ولسوف اجيب عنها فوراً. انني اشعر بالسعادة دوماً لحظة ان اثوب الى رشدي عند التفكير في اصدقائي.
ان نابولي هي الجنة بعينها؛ وكل امرء فيها يعيش في خدر نسيان الذات المنتشي، وهذا ينطبق عليّ ايضا. اذ ابدو بنظري انساناً آخر مختلفاً، لا اكاد اتعرف عليه، بالأمس قلت لنفسي: أما انك كنت ممسوساً من قبل، أو انك على مسّ من الجنون الآن.
انطلقت من هنا لرؤية بقايا مدينة كابوا التاريخية، وجوارها. لا يسع المرء ان يفهم معنى الزرع والنباتات حقاً إلا في مناطق مثل هذه، دفعت الانسان الى اختراع فن الغرس والزرع. ان نبات الكتان مزهر منذ الآن، وسيقان القمح طويلة حقاً. ان الريف المحيط بكاسيرتا منبسط تماماً، والحقول تحرث حرثاً حتى تصير ناعمة، مرتبة، كما لو كانت جنينة مزوقة. وتزدان الحقول باشجار الحور، التي تستظل بها الكروم، ورغم ظلال الحور القاتمة، فان التربة الواقعة اسفلها تثمر خير المحاصيل. ترى كيف ستبدو هذه الحقول حين يتجلى الربيع في ابهى صوره؟ ورغم لطف الشمس المشرقة، فان الريح ما تزال حتى الآن باردة، وما يزال الثلج على الجبال.
يتعين عليّ ان احزم امري خلال الاسبوعين القادمين بصدد الذهاب الى صقلية، سلباً أو ايجاباً. لم يسبق لي قط ان شعرت بانني مبهض الى هذا الحد بمشاعر متصارعة، كما هو حالي الآن وأنا اقلبّ القرار. فيوماً يحصل ما يدفعني لترجيح القرار لصالح الرحلة، ويوماً تطرأ ظروف تدفعني الى معارضته. ثمة روحان تتصارعان للظفر بي.
والآن سأحكي لاصدقائي شيئاً عن الجنس اللطيف، على ان يكون ذلك سراً بيننا ـ فلا تنبسوا بكلمة لأي كائن! انني مدرك تماماً ان مسرحيتي "افجيني" لقيت استقبالاً غريباً. لقد اعتاد الجميع على الصيغة الاصلية، وقد حفظ البعض كثرة من المقاطع عن ظهر قلب، عن طريق الاستماع الى النص أو مطالعته المتكررة. أما الآن فان النص يبدو مغايراً، وانني لادرك بما فيه الكفاية، ان لا احد يحبذ، في قرارة ذاته، تلك الآلام المتصلة التي زرعتها في المسرحية. ان عملاً كهذا لا يكتمل ابداً؛ وان المرء يقول انه اكتمل وانجز، لمجرد ان هذا المرء قد بذل فيه كل ما يقدر عليه في زمان وظروف الكتابة.
لكن ذلك لن يثني عزمي عن محاولة القيام بجراحة مماثلة على مسرحية: تاسو. اشعر احيانا انني كمن يرميها الى النار، لكني سأبقى على قراري، واعتزم، ان جرت الامور مجراها المطلوب، ان اجعلها مسرحية خارقة غير مالوفة. واذن، اشعر حقاً بالسعادة لأن طباعة كتاباتي تجري على نول بطيء. من جهة اخرى، اجد ان من المفيد لي ان استشعر الخطر البعيد القادم من منضد الحروف. ما اغرب ان ترى ان الاشياء التي اعكف عليها بدافع الحب وحده، تنتفع من منابع ضغط خارجي.
في روما، كنت احب ان ادرس، أما هنا فأحب ان أحب، وانسى نفسي وانسى العالم؛ وانها لتجربة غريبة لي ان اعيش في مجتمع لا يعمل فيه كل فرد إلا على اغتراف اللذة لنفسه. فالسفير الانجليزي هنا، السير ويليام هاملتون، الذي كرس سنوات عديدة لدراسة الفن والطبيعة، وجد ذروة هذه المباهج في اهاب فتاة انجليزية في العشرين من عمرها، شابة مليحة الوجه، رشيقة القوام. وقد أمر لها برداء اغريقي الطراز يناسب فتنتها. وحين ترتدي هذا الزي الاغريقي، تترك خصال شعرها مرسلة، وتتسربل بعدد من الشالات، مما يضفي التنوع على وقفاتها وحركاتها وسكناتها، وتعابيرها، فلا يكاد الناظر ان يصدق عينيه. ويرى الناظر ان ما يطمح آلاف الفنانين الى التعبير عنه انما يتجسد أمام ناظريه في ايماءات وحركات مذهلة ـ وقوفاً، ركوعاً، جلوساً، استرخاء، حزناً شفيفاً، لهواً عابثاً، نشوة غامرة، ايماءة اغواء، وعيد منذر، أوتوق كبير، في وقفة تلو الاخرى، دون انقطاع. وهي تتقن طي النقاب، أو سدله، وفقاً لكل ايماءة أو مزاج، ولها مائة طريقة وطريقة في تحويل النقاب الى غطاء رأس. وان الفارس المسن يعبدها عبادة، متحمساً لكل ما تفعل. لقد وجد فيها كل جمال العصور القديمة، وكل الرسومات الجانبية المضروبة على عملات صقلية، وكل الرسوم في ابوللو بيلفيدري. والخلاصة الجازمة: ان عرضها بلا نظير مما رأيتموه في حياتكم. لقد تمتعنا بذلك على مدى امسيتين. ويعكف تيشباين، في هذا الصباح، على رسم بورتريه لهذه الشابة.
ان كل ما قيل لي (أو تعلمته بنفسي باجراء الحساب اللازم) عن شخصيات واوضاع البلاط ينبغي ان يصنف الآن ويدقق. توجه الملك اليوم في رحلة صيد للذئاب، وهم يتوقعون الفتك بخمسة منها في الاقل.