نابولي 17 آذار (مارس)
كلما اوشكت ان ادون كلمات، اطلت صور بصرية على ذهني، صور ريف مثمر، وبحر مفتوح، وجزر ملفعة بضباب الافق، وجبل ينفث الدخان، وما شاكل، واجدني مفتقراً الى الجهاز الذهني القادر على وصف هذه الصور.
تتولى الارض هنا انتاج كل شيء؛ ويمكن للمرء ان يتوقع لها ان تدر المحاصيل على ثلاثة أو خمسة مواسم. وقيل لي ان محصول الذرة يمكن ان يزرع ثلاث مرات في السنوات الحسنة.
رأيت الكثير، وفكرت فيما هو اكثر. ان العالم ينفتح على مصراعيه امامي، وكل ما سبق لي ان عرفته ذهنياً، يغدو الآن جزءاً من كياني. أي كائن هو الانسان، في التبكير بالتعلم والتأخير في الممارسة!
الامر المؤسف الوحيد، حتى اللحظة، اني لا اجد من اشاطره افكاري. صحيح ان تيشباين في صحبتي، لكن عقله، بوصفه انساناً كما بوصفه فناناً، اشبه بكرة مضرب في انقذافها الدائم، وانشغالها بالف فكرة؛ زد على هذا ان كثرة من الناس تطرق بابه وتأخذ نصيبها من وقت فراغه. واجده يمثل حالة فريدة: رجل لا يستطيع ان يهتم تلقائيا بوجود أي كائن آخر، لأنه يشعر ان جهوده الخاصة محبطة.
لا ريب ان العالم لا يزيد عن عجلة بسيطة، تبعد كل نقطة من النقاط الواقعة على محيطها على مسافة متساوية من المركز. وهي تبدو غريبة لنا لمجرد اننا بالذات ندور معها.
لقد تأكد لي ما قلته مراراً. هناك ظواهر طبيعية معينة، وافكار مشوشة معينة، لا يمكن ان تفهم أو تعاد الى نصابها إلا في هذا البلد.
أما بالنسبة لرحلتي البحرية الى صقلية ـ فان الآلهة ما تزال تمسك بالموازين بين يديها. والأبرة الصغيرة ما تزال تتقلب يميناً وشمالاً.
من عساه يكون هذا الصديق الذي اخبرت عن مجيئه في تلغيز مبهم؟ آمل ألا يفوتني اللقاء به بسبب من جولاتي المحمومة، أو بسبب من الرحلة المقترحة الى الجزيرة.
عادت الفرقاطة من باليرمو. ولسوف تبحر ثانية بعد اسبوع من اليوم. لا اعرف حتى اللحظة ان كنت سابحر على متنها، أم اعود الى روما، في فترة الاسبوع المقدس. ما شعرت في حياتي قط بمثل هذا اللاقرار. لعل لحظة واحدة، هنيهة عابرة تقلب الموازين.
اخذت انسجم مع الآخرين بصورة افضل. المهم هنا ان نتذكر دوماً ان نزن هؤلاء بميزان البقال، لا بميزان الحدّاد، لأن الاصدقاء في احوالهم المتقلبة، بين وساوس المرض، أو الامزجة الحادة، ميالون الى ذلك، وياللأسف، ميلاً مفرطاً ازاء بعضهم البعض.
أما هنا، فان الناس لا يعرفون أي شيء عن بعضهم البعض. فكل واحد فيهم يمضي في سبيله هنا أو هناك، ونادراً ما يراقب جيرانه. وتجدهم يسرعون طوال النهار، جيئة وذهاباً، في فردوسهم هذا، من دون ان يجيلوا الطرف كثيراً فيما حولهم، وحين يفغر الجحيم القريب فاه لينفث الحمم، فانهم يلوذون بدم القديس جانواريوس. والحق ان الناس في بقية ارجاء العالم، في صراعهم مع الموت والشر، يلجأون الى هذا الدم، أو انهم سيلجأون اليهم ان استطاعوا الى ذلك سبيلاً.
انها لتجربة فريدة، رائعة، ان يشق المرء طريقه وسط حشد هائل، دائب الحركة. فالكل يتكثف في تيار هائل، مع هذا يتدبر كل فرد ان يجد سبيله الى غايته. وانني لاشعر، وسط هذه الكثرة من البشر ووسط هذه الحركة المدومة، بالسكينة والوحدة لاول مرة. وكلما علا هدير الشوارع، زادت السكينة في نفسي.
افكر احياناً في دفق وساوس جان جاك روسو الشاكية من عذابه. استطيع ان اتفهم تماماً كيف يمكن لعقل مرهف التنظيم مثل عقله، ان يقع فريسة الخَبَل. ولولا اهتمامي بموجودات الطبيعة، أو رؤيتي لوجود سبل عدة لتنسيق ومقارنة مئات الملاحظات المتضاربة ظاهرياً ـ مثلما يدقق المساح قياسات متباينة بواسطة خط مستقيم واحد ـ لاعتقدت ان بي مساً من الجنون أنا ايضا.