18 آذار (مارس)
لم يعد بوسعنا ارجاء الذهاب لرؤية مدينة هرقل ومتحف بورتيتشي، وما يحويانه من محتفرات آثارية. تقع مدينة هرقل عند قاع جبل فيزوف، وقد دفنت باكملها بدثار من حمم البركان، ازدادت سمكاً بالمقذوفات الجديدة لسنوات، بحيث باتت المدينة القديمة الآن ادنى من سطح الارض بنحو ستين قدماً. اكتشفت المدينة مصادفة اثناء حفر بئر، اذ عثر احد الحفارين على ارضية مبلطة بالرخام. ومن المؤسف ألف مرة ان هذا الموقع لم يحفر حفراً منهجياً على يد عمال مناجم المان، بل جرى الحفر بشكل عابر، ونهبت الموجودات نهباً، كما لو على يد قطاع طرق، فضاعت أو تلفت كثرة من المنتجات النبيلة التي ابدعها القدماء.
نزلنا سلماً مؤلفاً من نحو ستين درجة وصولاً الى سرداب، فبلغنا موقع مسرح في الهواء الطلق عايناه معجبين على ضوء مشعل. واخبرنا حراس الموقع عن اشياء عثر عليها في الاطلال واخرجت الى ضوء النهار.
حملنا رسائل توصية حسنة الى القائمين على المتحف فأحسنوا استقبالنا، إلا انهم لم يأذنوا لنا برسم أي شيء. ولعل هذا ما دفعنا الى تدقيق الانتباه بما نرى، والتحليق في الماضي، يوم كانت كل هذه الآثار جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لاصحابها. لقد غيرت هذه الاشياء صورة بومبي في ذهني.واضحت بيوت بومبي، وأنا اراها بعين الخيال، تبدو اشد ازدحاماً وارحب مساحة ـ اشد ازدحاماً لأن هذه الاشياء لم تصنع لمجرد الاستعمال، بل استخدمت للزينة، فهي مصنوعة باسلوب فني رشيق، يوسع العقل وينعشه على نحو تعجز عن تحقيقه المساحة المادية الصرف لأكبر الحجرات.
هناك، على سبيل المثال، جرّة بديعة، ذات حافة مزخرفة زخرفة بديعة، ولدى تدقيق النظر عن كثب اتضح ان ذلك هو بالاحرى مقبضان شبه دائريين، لرفع الجرة وحملها بيسر. وأما المصابيح فمزينة بالاقنعة، أو بنقوش على شكل اوراق وازاهير، قدر ما هي مزودة بذبالة تنوس، لتضيء شتى ضروب اعمال الفن. وهناك دكات برونزية، نحيفة، قصد بها ان تكون قاعدة للمصابيح. أما المصابيح المتدلية من السقف، فمعلقة بشتى انواع المنحوتات المزخرفة بمهارة، التي تبهر الناظر وتمتعه، حين تتدلى وتتأرجح.
تبعنا سادن الآثار من قاعة الى اخرى، محاولين التمتع والتعلم قدر المستطاع في فسحة الوقت القليلة الباقية. نأمل ان نعود ثانية.