23 آذار (مارس)
وضعت علاقتي مع كنيب على محك الاختبار العملي، وهي تعد بأن تمدنا نحن الاثنين باكبر الرضى. قمنا بجولة في بايستوم، فتكشف لي عن رسام تصاميم مثابر. وتمخضت رحلتنا الصغيرة عن تخطيطات فذة، وهو سعيد لرؤية ان هذا الانشغال الدائب بالحياة يحفز موهبته، التي كان يرتاب فيها. ان الرسم يقتضي الحزم، وان مهارته الدقيقة، المنظمة، لا تتجلى إلا في الرسم وحده. ولا ينسى كنيب ان يصنع مربعاً حول الورقة التي يريد الرسم عليها، ثم يعكف على بري اقلامه الانجليزية الرائعة، مرة تلو اخرى، مستمداً من بري الاقلام متعة لا تقل عن لذة الرسم. والنتيجة ان تخطيطاته لا تترك شاردة مشتهاة.
عقدنا الصفقة التالية: ان نعيش ونسافر معاً، منذ الآن، على ان تقتصر واجباته على الرسم، وان تكون كل رسومه ملكاً لي؛ وان يستخدم بعض هذه الرسوم لوضع لوحات جديدة لدى العودة، لمواضيع اتولى اختيارها بنفسي، على ان اشتري هذه اللوحات حتى آخر قرش في حافظة نقودي، ويمكن لـه، بفضل موهبته واهمية المناظر التي يرسمها، ان يبيع ما تبقى لغيري. أنا سعيد بهذا الاتفاق.
والآن دعوني اوجز وصف جولتنا. استأجرنا عربة خفيفة ذات عجلتين، أما السائس فصبي ريفي، اخرق، إلا انه طيب السريرة. وقف السائس، خلفنا، أما نحن فأمسكنا باللجام، تباعاً، ومضينا في طريق ريفي ساحر، حياه كنيب بعيني فنان. وسرعان ما بلغنا شعباً من الشعاب الجلية الضيقة فاجتزناه وغذذنا المسير على اكثر الطرق سلاسة ونعومة، عبر ايكات زاهية من الاشجار والصخور. توقفنا بالقرب من لاكافا، لأن كنيب لم يستطع مقاومة اغراء رسم جبل بديع، يشمخ على صفحة السماء. سجل في تخطيطه الدقيق، المميز، الجبل بأسره من قمته الى قاعه. وبدا السرور الذي اشاعه فينا هذا الرسم فألاً حسناً لبداية صداقتنا.
انجز كنيب في المساء ذاته رسماً آخر لمشهد من نافذة النزل الذي بتنا فيه في ساليرنو، مما يجعل وصفي لهذه البقعة الجميلة نافلاً. ترى من ذا الذي كان سيمتنع عن الدراسة في هذا المكان، يوم كانت الجامعة في عزّ مجدها؟
في الصباح الباكر من اليوم التالي قطعنا بالعربة طرقاً وعرة، موحلة في الغالب، وصولاً الى اجمل الجبال شكلاً. عبرنا بركاً، ومواضع مغمورة بالمياه، لنرى وجهاً لوجه، ثيراناً وحشية، تتوقد عيونها بالشرر. بدت هذه الثيران اقرب الى صورة الكركدن الضخم.
بعد هذا انبسط الريف سهلاً مستوياً، خالياً، إلا من منازل متفرقة، أو حقول متفرقة، تتناقص. ولاحت في البعيد كتلة ضخمة، مكعبة الشكل، ولما بلغناها، لم نكن نعرف ان كنا نقطع الطريق وسط جلاميد أم خرائب. بعد هذا ادركنا انها بقايا معابد وانصاب مدينة رفلت ذات يوم بحلل المجد. سارع كنيب الى اختيار موقع ملائم لرسم هذ المشهد الزاهي، بينما رحت ابحث عن ريفي من الانحاء ليرشدني في الطواف بهذه المعابد. لم يثر فيّ مرأى هذه الاطلال، باديء الامر، سوى بلادة الاحساس. وجدت نفسي في عالم غريب عني تماماً. ان ارتقاء الانسان في القرون الخوالي من التقشف الى الفتنة، قد صاغ بل خلق، فيّ الآن ذاته، انساناً جديداً. ان عيوننا، وحواسنا كلها، الفاعلة من خلال النظر، قد تكيفت واعتادت على اسلوب من العمارة أرق بكثير من هذه الكتل المزدحمة من الاعمدة المخروطية، القصيرة والثخينة، التي تبدو عدائية، بل مفزعة. تمالكت نفسي، وتذكرت تاريخ الفن، واسترجعت في مخيلتي صور الاسلوب المتقشف في فن النحت، وبعد اقل من ساعة وجدتني متصالحاً مع هذه الكتل، بل ممتناً لملاكي الحارس ان اتاح لي مشاهدة هذه الآثار، التي حفظت على خير وجه، بعيني هاتين. ان النسخ المصورة تولد انطباعاً زائفاً، فالتصاميم المعمارية تضفي على الاصل رونقاً مزوراً، أما الرسوم فانها، بما فيها من منظور، تجعل الاصل يبدو اخرق خلافاً للحقيقة. وان التجوال الحي وسط هذه الانصاب، والالتفاف من حولها، يمكنان المرء من مناغمة حياته مع تجربتها، وادراك الاثر النفسي الذي اراد المعماري بلوغه. قضيت سحابة النهار وأنا احاول التناغم، أما كنيب فقد انكب على وضع التخطيطات. وسعدت لادراكي بأني لن احمل بعد همّ الحصول على سجلات امينة تسعف ذاكرتي. ولسوء الحظ لا يتوفر في الجوار نزل للمبيت هذه الليلة، لهذا عدنا الى ساليرنو، ثم انطلقنا بالعربة الى نابولي صباح اليوم التالي. وفي هذه المرة شاهدنا جبل البركان، فيزوف، من الجانب الآخر. كان الريف خصباً، والطريق الرئيس محفوفاً باشجار الحور العملاقة، كأنها اهرامات. توقفنا لفترة وجيزة، كيما نمتلك هذا المشهد المبهج. بعد هذا بلغنا اعلى الجروف الصخرية، فانبجست اطلالة مشهد عظيم امام ناظرينا: نابولي بكل بهائها، صفوف من المنازل تمتد اميالاً على طول ساحل منبسط حتى الخليج، فنتوء الجبل المشرئب الى البحر، فألسنة اليابسة الممتدة الى البحر، فالاكمات، فالجزر، فالبحر الرابض وراءها. مشهد يبهر الانفاس!
انطلق بغتة صوت صاخب، زعيق، أو صراخ ابتهاج اكثر منه صداح اغنية، فجفلت خارجاً من استغراقي في التأمل. جاء ذلك من الصبي السائس، الواقف خلفي. التفت اليه غاضباً لأقرعه. كان هذا الصبي طيب السريرة، ولعل هذه اول مرة يسمع فيها منا مثل هذا التقريع.
لبث لحظة بلا حراك أو نطق، ثم ربت على كتفي، ومدّ ذراعه اليمنى، بيني وبين كنيب، ليوميء باصابعه الى البعيد ويقول ما ترجمته: "سيدي، اغفر لي! هذه ارض موطني!" وهكذا جفلت للمرة الثانية. يالي من شمالي تعيس ـ وانبجس شيء يشبه الدموع من عيني.