26 آذار (مارس)
سأبعث هذه الرسالة في الغد. أخيراً، تقرر موعد ابحاري الى باليرمو يوم الخميس، التاسع والعشرين من هذا الشهر، على متن طرّاد، ولجهلي بأمور البحرية، فقد ارتقيت بالطراد، في رسالة سابقة، الى مصاف فرقاطة.
أدت بي حالة التردد، خلال فترة مكوثي هنا ـ أي هل ابقى أم ارحل ـ الى اثارة القلق والامتعاض في نفسي احياناً؛ أما الآن فقد حسمت قراري، وهدأت روحي. ان هذه الرحلة مريحة وضرورية، في ضوء مزاجي الخاص. فصقلية، في نظري، تعني ضمناً آسيا وافريقيا؛ وان الوقوف عند ذلك المركز الاعجازي الذي تتلاقى فيه اشعاعات كثيرة من تاريخ العالم، لن يكون شأناً قليل الاهمية عندي.
لقد عشت في نابولي مثل أي واحد من ابنائها. قاربت كل شيء باستثناء الهمة والدأب؛ وانني لعازم حال عودتي على التعويض لملء بعض الفراغات بل قلة منها، كما اخشى، نظراً لأن عليّ العودة الى روما بحلول التاسع والعشرين من حزيران (يونيو). فبعد ان فوت فرصة الاسبوع المقدس، ارغب في ان اشارك في عيد القديس بطرس. ولن ادع رحلتي الصقلية تحرفني عن مسار خطتي الاصلية.
باغتتنا أول الأمس زوبعة رعدية قاصمة، وامطار مدرارة، أما الآن فقد صفا الجو، وهبت ريح اجنبية قادمة من الشمال. واذا ما استمرت ريح الشمال، فان عبورنا سيكون سريعاً.
زرنا أنا وكنيب الطرّاد البحري بالأمس كيما نلقي نظرة على قمرتنا. ما تزال الرحلة البحرية تجربة يتعين عليّ خوضعها. ان هذا العبور الوجيز، ثم الابحار على طول الساحل، سيحفز خيالي ويوسع رؤيتي للعالم. قبطان الطراد شاب محبوب؛ والسفينة، التي صنعت في امريكا، نظيفة، انيقة، حسنة الابحار.
بدأت الخضرة هنا تكسو كل شيء، أما صقلية فستكون اشد خضرة. حين تصلكم هذه الرسالة، اكون قد خلفت تريناكريا ورائي، ماضياً في رحلة الأياب. هذا هو صاحبكم! رجل يتأرجح جيئة وذهاباً في افكاره. لم اصل بعد مقصدي، مع هذا فأنا معكم بافكاري. ليس ذنبي ان تبدو هذه الرسالة مرتبكة. فهناك امور تقاطعني طوال الوقت، لكني عازم في الاقل على اكمال كتابة هذه الصفحة.
حظيت تواً بزيارة من الماركيز بيريو، وهو رجل في مقتبل العمر يبدو حسن الاطلاع. لقد رغب في التعرف على مؤلف "آلام فيرتر". ان ابناء نابولي يمتازون على العموم برغبة عظيمة في الاغتراف من مناهل الثقافة، وبتعطش كبير للمعرفة، لكنهم يعيشون عيشاً خلي البال فلا يعرفون سلوك السبيل المناسب لهذه الغاية. لو توفر لي المزيد من الوقت، لسعدت بأن اقدم لهم المزيد. اربعة اسابيع ـ ما اصغرها لحظة ازاء كثافة الحياة الهائلة؟
والآن، وداعاً! في هذه الرحلة سأتعلم ولا ريب، كيف ابحر؛ ولا ادري ان كنت سأتعلم كيف اعيش. ان البشر الذين التقيتهم ممن يمتلكون فن العيش يختلفون عني اختلافاً بيناً في طباعهم وعاداتهم، الى درجة تدفعني للارتياب في امتلاكي لهذه الموهبة. وداعاً، تذكروني بنفس الحب الذي اكنه لكم في قلبي.